تخيل أن الجن (أو "الشياطين"، كما يطلق عليهم قسوم) يشبهون الجراثيم. إنهم هناك يسببون العلل المرضية، ولكننا لم نتمكن بعد من اكتشافهم أو ملاحظتهم تحت ظروف خاضعة للرقابة. في هذه الحالة، اعتبار الجن كمُسبب للمرض العقلي لا يفضي إلى اكتشاف العلاج (على الرغم من أنه قد يساعد على استخدام العلاجات التي لم نتمكن من اكتشافها بأنفسنا ولكن أُبلِغنا بها عن طريق وسائل أخرى). وفي ذلك الصدد، يتم اعتباره على أنه أمر" خارق للطبيعة"، ولكن إن قُمنا مستقبلًا بتطوير وسائل اكتشافها ودراستها على أُسس منهجية، وعلمنا أن بعض الأمراض العقلية ماهي إلا استحواذ شيطاني (مس شيطاني)، هل هناك أي سبب مبدئي متبقٍ للقول: بأن هذا يُعد تفسيرًا "خارق للطبيعة"؟ وفي جزء آخر من رسالته، طلب منّا قسوم النظر بجدية في إمكانية وجود كائنات ذكية غير بشرية لم يتم اكتشافها حتى الآن، كائنات فضائية على سبيل الافتراض.
هل تفسير اختفاء أحد ما على أنه اختطاف فضائي لا يعد أمرًا "خارقًا للطبيعة" كقولنا إن المرض العقلي من قبيل المس الشيطاني؟ تخيلوا بعد ذلك أننا اكتشفنا علميًا وجود شياطين في الفضاء الخارجي، وأنهم قد تسببوا في مرض عقلي باختطاف الناس والسيطرة عليهم. (جانبًا: إن هبط هؤلاء على مركبة فضائية وعرفّوا عن أنفسهم، فهل نعتبر ذلك "اكتشافًا علميًا"؟) على أي حال، فإن الشياطين الفضائية ستكون أقل فائدة من الجراثيم، كعامل مُفسّر، فيما يتعلق بغرض شفاء الأمراض، حيث من المفترض أن يكون لهم نفسية معقدة، وبالتالي فإنه على الأقل سيصعب على البشر التنبؤ بسلوكهم والتحكم به. هذا، بالطبع، هو ما أثار أسئلة حول ما إذا كان بإمكان العلوم الاجتماعية وعلم الاقتصاد الحصول على مكانة "العلوم الصعبة".
لكن من الواضح أنه من الخطأ الحكم على العوامل التفسيرية المعمول بها في هذه العلوم بنفس المعايير التي نحكم بها على الفيزياء أو البيولوجيا، لأن أهداف هذه العلوم مختلفة تمامًا. وعلى هذا النحو، تختلف الظواهر المعرفية المفيدة المُستخدمة كعوامل تفسيرية من مجال لآخر. لذلك، فإن ما يُعد مقبولًا كـ "طبيعة" -بهذا المعنى الصحيح من الناحية المنهجية-سيختلف من فرع معرفي إلى آخر. سيكون البديل، على سبيل المثال، تصنيف العلوم الاجتماعية من حيث تقديم تفسيرات "خارقة للطبيعة" وبالتالي تنتمي إلى علوم "ما قبل الحداثة"، هو أمر غير محتمل.
من ناحية أخرى، قد يُقترح تحديد ما يعتبر "طبيعي" على وجه التحديد من حيث تلبيتها للمتطلبات المعرفية التي تنطوي عليها أهداف علوم الفيزياء والبيولوجيا وما شابه. ومن ثمَّ سيكون لدينا أسباب معقولة لعدم تصنيف العلوم الإنسانية والاجتماعية على أنها "علوم طبيعية"، بحكم أنها لا تعمل وفق منهجية طبيعية محددة. ولكن ذلك لن يكون أيضًا سببًا لاعتبارها علوم "خارقة للطبيعة". هذا يعني فقط أن العلوم "الطبيعة" لا يمكن فهمها ببساطة إن تمت مقارنتها في معارضة ثنائية للعلوم "الخارقة للطبيعة" فلا يمكن اعتبار أن كل ما هو غير طبيعي يكون بطبيعة الحال خارق للطبيعة". وهذا يشمل السلوك البشري والثقافة، وكذلك أي سلوك وثقافة افتراضية لشياطين الفضاء. مما يعني أيضًا أن تحديد الطبيعة المنهجية باعتبارها السمة الأساسية للعلوم الحديثة سوف يستبعد فعليًا العلوم الاجتماعية من الحداثة.
علاوة على ذلك، تُعد الأهداف في إطار نظام علمي معين ليست ثابتة، ولكنها خضعت للتطور التاريخي، وعلى الأرجح ستستمر في هذا التطور. إذا كان مفهومنا للطبيعة المنهجية، باعتباره السمة المميزة للعلم الحديث، يرتكز على مجموعة محددة من المتطلبات المعرفية، عندئذٍ يتعين علينا إما إنكار إمكانية حدوث أي تطور إضافي في أهداف علومنا الموجودة حاليًا، أو الاعتراف باحتمالية تخطي العلم نفسه"الطبيعة المنهجية"، وبالتالي، الحداثة.
ولكن بيت القصيد هو إصرار المرء على أن بعض الأهداف الأساسية تكون عامة، وهذا صحيح، حيث أن غاية العلم هي التأكد من الحقائق، وغاية التكنولوجيا هي تحقيق ما نهدف إليه. إن العلاقة الضرورية بين الاثنين واضحة. ولكنها عامة لكليهما "الحديث" و "ما قبل–الحداثة" وصحة المنهجية كقاعدة، بالمعنى المُجرد لها، لا تُعد كافية لتمييز ما هو حديث. فيجب أن يعتمد ذلك على الطبيعة المحددة للأهداف التي تُفهم على أنها "حديثة" وأفكارنا حول الوسائل الصحيحة لتحقيقها. لكن هل تلك الأهداف لا تخضع للنقد والتطور؟
وطالما أننا نعرِّف الطبيعة المنهجية على أنها قبول مؤقت للتفسيرات "الطبيعة" فقط، ولأغراض منهجية معينة، إذاً، فإن أوضح طريق للمضي قدمًا هو تحديد "الطبيعة" في هذا السياق، باعتباره مجرد عامل توضيحي يُفسح المجال لتحقيق تلك الأغراض. ومع ذلك، فإن وجود شيء من الدقة في تصورنا لتلك الأغراض والأهداف المعرفية التي يستلزمها يُعد أمرًا ضروريًا، إن كان هناك شيء مهم ومفيد يمكن الاستدلال عليه فيما يتعلق بالمنهجية. ومرة أخرى، يجب أن يكون هناك مفهومًا مستقرًا وعامًا بما يكفي لتقديم وصف منهجي عام قابل للتطبيق على مجموعة من التخصصات العلمية، ومنفتحًا للإنمائيةì الحاسمة فيما يتعلق بأهم أهدافها الأساسية وافتراضاتها المسبقة.
ولتحقيق هذه الغاية، دعونا نعود إلى علم الوجود الأساسي للخالق والخلق، والمثال الإرشادي لربط الجمل، كممثل لعلاقتنا المعرفية والعملية بالخلق على هذا النحو. في هذه الحالة، فإن هدفنا هو فهم الخلق في حد ذاته، بقدر المستطاع. من هنا، نتذكر النقطة المهمة، التي ظهرت في المواجهة التقليدية بين علم الكلام في الإسلام والفلسفة، أنه إذا لم يكن الخلق مُنظمًا بما فيه الكفاية، لتعين أن يكون غير مفهوم بطبيعة الحال، ومن ثمّ يصعب فهمه في حد ذاته وتحقيق أهدافنا المرجوة منه. فإن لم نكن نعلم ماذا سيحدثه الله إن ربطت الجمل أو لم أربطه، فسيكون عملنا في هذا العالم لا جدوى منه. وقد تُظهر لنا مشكلة الاستقراء أنه لا يمكننا أبدًا أن نعرف كيف تُنظم الأمور حقًا. إذا كان الأمر كذلك، فهي مشكلة، فعلى وجه التحديد أنه إذا كانت الطبيعة ليست منظمة بشكل كاف، فإن معرفة الطبيعة أمر مستحيل. وهذا يعني أن المعرفة فيما يتعلق بالعالم لا يمكن أن تتبع بعقلانية ما عدا في إطار افتراض أن الأمور مُنظمة بشكل كافٍ. وسيكون هذا صحيحًا بصرف النظر عن كيفية تطور أهدافنا العلمية وافتراضاتنا الأساسية بمرور الوقت. هل هناك مواصفات أخرى يمكننا القيام بها؟
اقترح سكوت تانونا مؤخرًا صياغة مثيرة للاهتمام بشأن الطبيعة، من حيث الرغبات المعرفية (علم المعرفيات) والذاتيه المشتركة والقدرة على التنبؤ. ويضيف أيضًا: "أن الظاهرة أمر طبيعي إن اشتملت على اطراد بين الجوانب المتبادلة والقابلة للتحديد في العالم"، حيث يقيّد هذا الاطراد القيم المحتملة لتلك الجوانب المشتركة للسماح بعمل تنبؤات بشأنها، بما في ذلك، إن أمكن، التدخلات. إن "تعريف جانب الذاتية المشتركة" هو أي جانب يمكن وصفه أو قياسه بطريقة يمكن الوصول إليها لأكثر من شخص (أو ملاحظ). من ناحية أخرى، فإن ما هو خارق للطبيعة هو "أبعد من أي قابلية تنبؤيه تبادلية"، بحيث "لا يتعارض فقط مع النظرية الفيزيائية المفهومة حاليًا، بل يتجاوز قدرتنا على دمجها في أي نظرية مستقبلية عن أي اطراد فيزيائي قابل للاختبار التجريبي أو القانون.
يتفق تانونا مع قسوم في أن الطبيعة المنهجية لا تنطوي على طبيعية وجودية. في الواقع، فقد أوضح صراحة أن دافعه الخاص هو الدفاع عن التمييز ضد الاتهامات الموجهة له بعدم الاستدامة. وقد عبر عن هذا التمييز من حيث (الطبيعة "الداخلية" و“الخارجية"، حيث يتمثل الأول في تطبيق النزعة الطبيعية في مجال العلم وحده، بينما يشير الأخير إلى تطبيقه بشكل عام.
تعتمد الطبيعة المنهجيّة الداخليّة على الحدّ الأدنى من أيّ سرد علميّ الذي يجعلها على اتصال محدّدًا مع البيانات المتبادلة، وبهذا الاتصال نحصل على مطالبات محددة تنبؤية حول بيانات أخرى متبادلة. ولا يكون هذا السرد العلمي متوّج بالنجاح (في أي مكان كان ) كما أنه لا ينبغي أن يكون حصري.
وبعبارة أخرى، فإن صياغة هذه المنهجية الطبيعية لا ترتقي إلى الرأي الإيجابي القائل بأن كل شيء في العالم الطبيعي يمكن تفسيره من حيث الصلاحية، أو من حيث المبدأ، لعمل تنبؤات متبادلة. هذا يعني ببساطة الحد من اعتبارات المرء لعوامل تصلح لفعل ذلك، لغرض محدد، ألا وهو استخلاص أكبر قدر ممكن من الطبيعة، من حيث المبدأ، للقيام بذلك في الواقع الفعلي. وهذا يتفق تمامًا مع معرفتنا بأن هناك بعض الأشياء التي لا تصلح، سواء في جوهرها أو من حيث المبدأ. كما أنها تتماشى تمامًا مع معرفتنا بأنه لا يوجد شيء من النظام المُكتشف حتى الآن يمكن أن يزيل الاحتمالية الحقيقة بأنه في اللحظة التالية، سيتغير كل شيء بشكل جذري. ولذلك أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف قائلًا: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها"
2 انظر كتاب بوبر، وكارل “منطق البحث “دار نشر: جوليوس سبرينغر، فيينا. 1992.
3 كتاب أبو حامد الغزالي "تهافت الفلاسفة" ترجمة: مايكل مرمرة، مطبعة جامعة بريغهام يونغ، 1997.
4 لمزيد من المعلومات حول هذا الموضوع أنظر كتاب نظريات معاصرة وعرضية عن السببية للكاتب مؤيد، إدوارد. (سيصدر قريبًا)
5 نضال قسوم،"" الارتباط الواجب بين علم الكلام والعلوم التجريبية الحديثة"، مؤسسة كلام للأبحاث والإعلام، سلسلة رسائل رقم: 6. 2011 صفحة رقم 4.
9 كتاب سكوت تانونا " "السعي وراء الطبيعية"، دراسات فلسفية، مجلد.148، رقم 1 (مارس 2010) صفحة رقم 82.
12 مسند أحمد بن حنبل 12491