نبذة تاريخية عن حركة ما بعد الإنسانية
يُقدم الفيلسوف السويدي نيك بوستروم دراسة تاريخية مستفيضة عن فكر حركة ما بعد الإنسانية في بحثه الذي كتبه تحت عنوان " تاريخ فكر حركة ما بعد الإنسانية." والمبحث التالي يلخص ويناقش بعض الشخصيات الرئيسية التي أرجع إليهم – كما فعل غيره من العلماء- أصل فكر بعد الإنسانية وتطوره. إن ملحمة جلجامش الأكدية غالباً ما يُستشهد بها على أنها أول الأعمال الأدبية الناجية والتي تحتوي على ما قد يطلق عليه أول رواية مكتوبة لشخص يسعى إلى تدخل مؤيد لما بعد الإنسانية وهو بطل الرواية ملك مدينة أوروك الذي ظل يبحث عن الخلود. كما أنه غالباً ما يُستشهد بالبحث عن الخلود باعتباره واحد من غايات حركة ما بعد الإنسانية. من المؤكد أن هذا الملك كان يسعى إلى تدخل سحري بدلاً من تدخل له أصل أو سبب علمي والأخير هو الأساس بالنسبة لحركة ما بعد الإنسانية. ومع ذلك فإن البعض قد يرى هذا التعليل الذي يتعلق بالوسيلة، وهو ما أخذ به أنصار حركة ما بعد الإنسانية، لا يُعتبر شكلاً شاملاً للسبب، وهو ما أوضحه لاحقاً. نجد أيضاً في الأساطير الإغريقية بوادر لحركة ما بعد الإنسانية. فضلاً عن قصة بروميثيوس الذي أغضب الآلهة عندما سرق منهم النار وأعطاها للبشر وبهذا حسن حياة البشر، بالإضافة إلى شخصية دايدالوس وهو والد إيكاروس والذي وهب نفسه لإيجاد طرق تحسن من قدرات البشر ولكن بدون استعمال السحر فقد آثر بدلاً من ذلك استعمال الحلول التي تعتمد على الهندسة. أما وفاة إيكاروس فقد كانت إنذاراً لألفية جعلت لدى البشر رغبة غاية في الطموح فيما يتعلق بذلك.
بينما قد نجد أصولاً للتفكير المتوافق مع حركة ما بعد العلمانية في النصوص البشرية القديمة، فإن عصر التنوير الأوروبي هو الذي يُعزى إليه الفضل في فتح الطريق أمام بداية فلسفة ما بعد الإنسانية. حيث جلب التنوير الأوروبي معه عددا من الثورات الفكرية التي غيرت مجرى التاريخ البشري. فقد كان لحركة التنوير تأثير على ثلاث فروع من المعرفة تحديداً – العلوم والسياسة والفلسفة – مما أدى إلى حدث ثورة في أسلوب دراسة هذه العلوم والاستفادة منها. كما أن ظهور الحركة العلمانية على حساب سلطة الكنيسة الأوروبية أدى إلى اختلاف جوهري في طريقة وضع القواعد الأخلاقية وطريقة تطبيقها. فتغير نظرية مركزية الأرض للنظام الشمسي إلى نظرية مركزية الشمس يُمثل وحده مدى التحولات الفكرية الهائلة التي حدثت في أوروبا إبان هذه الحقبة، حيث تغيير الكون وطريقة إدراك البشر له بشكل جوهري.
لقد جلبت الثورة العلمية في ذلك الوقت معها أملاً – بالطبع بين العديد من الطبقات العليا في المجتمع – بأنه يمكن بناء عالم أفضل على قاعدة من العلم والعقل. يصف أحد الشخصيات البارزة في هذا العصر وهو الفيلسوف فرانسيس بيكون المدينة الفاضلة في روايته أطلانتس الجديدة فيقول: " هنا حيث انتهت معاناة البشرية من خلال تطور، وبالتأكيد كمال، المعرفة العلمية وتطبيقاتها التقنية." وهذا يعكس التفاؤل الذي شعر به الكثيرون في ذلك الوقت فيما يتعلق بالعلوم واحتمالاتها نحو الرقي بالحياة البشرية.
لعل هذا التفاؤل المطلق يمكن أن نتفهمه عندما نتذكر أن ذلك كان قبل ظهور تلك الاختراعات الوحشية والمدمرة مثل القنابل النووية والحرب الجرثومية وأقلها درامية وإن كانت سامة مثل اكتشاف المواد المسرطنة. إن الحقيقة أن تلك العلوم وتطبيقاتها من الممكن أن تكون مسببات الخراب وأساساً لإعادة التفكير في التفاؤل باحتمالاتها المستقبلية. هذا النزاع حول الاحتمالية ينعكس على الانقسام الحاصل بين العلماء والفلاسفة فيما يتعلق بحركة ما بعد الإنسانية وبعض التطبيقات الحديثة الأخرى.
فيما يتعلق بالدفاع عن التفاؤل لابد أن نلاحظ أن التكنولوجيا والعلوم ليست هي ذاتها التي جعلت تلك الأفكار تظهر على الساحة بل إن فكرة خضوع الإنسان لحكم المعرفة هي التي أدت إلى ذلك، حيث جعل العقلانيون المعرفة هي "العقل الخالص" وجعلها التجريبيون هي العلوم. بعد تساقط الدوغمائية الدينية التي جعلت أوروبا تغوص في مستنقع من الحروب والقمع وإهمال العلوم المادية فكان التنوير عصراً للأمل الفكري. حيث آمن الفلاسفة السياسيون في هذا العصر أمثال بنجامين فرانكلين (ت. 1790) وويليام جودوين (ت.1836) أن عدم المساواة والظلم وكذلك المرض (وربما يضاف إليهم الموت يوماً ما) يمكن القضاء عليه بواسطة التقدم العلمي. ولذلك كان يُنظر إلى العلوم على أنها امتداد للعقل وأنها واحدة من أبرز مدارسه الفكرية وتطبيقاته.
ومع ظهور كتاب أصل الأنواع في 1859 لتشارلز دارون (ت.1882) والذي كان له تأثير مُدوٍ بدى أن ما بعد الإنسانية غاية يمكن الوصول إليها أكثر من أي وقت مضى. طبقاً لهذه النظرية فإن البشر الحاليين يمثلون مجرد مرحلة واحدة في عملية التطور. لذلك من الذي يقول بأننا وصلنا إلى نهاية هذه العملية؟ بالنسبة لأولئك الذين يؤمنون بنظرية داروين، فإن الفكرة القائلة بأننا لن نتطور بعد الآن تبدو أقل مصداقية أو احتمالا من فكرة أننا سنواصل التطور. في عام 1923، نشر العالم البريطاني جون بوردون ساندرسون هالدين (ت. 1964) مقال ديدالوس؛ أو "العلوم والمستقبل"، والذي قدم نظرة متفائلة بشأن الفوائد التي ستأتي جنبا إلى جنب مع إتقان العلوم بشكل عام، وعلم الوراثة على وجه الخصوص. بشكل ملحوظ، اقترح هالدين أن العديد من التطورات العلمية الجديدة ينظر إليها في البداية على أنها تجديف، بل وحتى من الرجس وتم رفضها في البداية من قبل التيار الرئيسي من الناس بسبب ان الاختلافات الهائلة التي تقدمها تعتبر غير طبيعية. ويبدو أن هالدين توقع بعض القضايا الهامة التي قد تنشأ في هذه المناقشة؛ والمناقشة بالتأكيد نشأت بما ان مقاله أصبح الأكثر مبيعا. أدلى كُتاب اخرون بدلوهم ايضا، وقدموا توقعات أقل تفاؤلا في حالة برتراند راسل (ت. 1970) إيكاروس: مستقبل العلوم والدوس هكسلي في عالم جديد شجاع. وقد وضع هذا الأخير رؤية مظلمة لمستقبل ديستوبي فيه الإرادة الحرة والدافع البشري والحرية معاقين بشدة بواسطة التكنولوجيا الحيوية والممارسات النفسية القمعية فضلا عن الانغماس في الجنس والمخدرات. وفي حين أن رواية 1948 لجورج أورويل (ت.1950) لم تصف صراحة التكنولوجيا الحيوية كأداة للقمع، إلا أنها قدمت حالة مخيفة حول إمكانية إساءة استخدام العلم والتكنولوجيا لاستعباد "الجماهير".
جوليان هكسلي العالم الاحيائي شقيق الدوس هكسلي، هو الذي سيذهب ليصوغ مصطلح ما بعد الإنسانية في عام 1927، ويكتب في نصه الدين بدون وحي:
يمكن للجنس البشري، إذا رغب في ذلك، أن يسموا على نفسه - وليس فقط بشكل متقطع - فرد هنا بطريقة وفرد هناك بطريقة أخرى - ولكن في مجملها كبشرية.
نحن بحاجة إلى اسم لهذا الاعتقاد الجديد. ربما "ما بعد الإنسانية": الانسان يبقي انسان، ولكن يسموا على نفسه، من خلال تحقيق إمكانيات جديدة لطبيعته الإنسانية.
شهد القرن الماضي التطور الهائل للعلوم والتكنولوجيا، تماشيا مع قانون مور. وقد بدأت ما بعد الإنسانية في شكل علوم تطبيقية على نطاق ضيق، في امثال نطاق الصيدلة، في حين أن التغييرات الأساسية في كياننا لا تزال معلقة لأسباب تشريعية. ما بعد الانسانية بالفعل بيننا، ومع كون النظرية يحتج لصالحها داخل الأوساط الأكاديمية، في حين أن الممارسة موجودة بالفعل داخل العالم الدوائي، عن طريق "العقاقير المصممة". ويبدو أن هذا قد يكون مجرد بداية موجة جديدة من الممارسات ما بعد الانسانية؛ غالبا نحن جميعا سنتأثر بها، بطريقة أو بأخرى.
مقدمة عن نظرية ما بعد الإنسانية
لا يزال بوستروم واحدا من أكثر أنصار ما بعد الإنسانية صراحة بين الفلاسفة. وهو يجادل للرأي القائل بأن ما بعد الإنسانية يمكن أن تؤدي إلى تحسين لجنسنا، مما يسمح لنا بالتطور في نهاية المطاف لما بعد الإنسانية. وتشمل فوائد ما بعد الإنسانية "امتداد نهائي للصحة البشرية، والقضاء على المرض، والقضاء على المعاناة غير الضرورية، وزيادة القدرات الفكرية والجسدية والعاطفية للبشر." وطبقا لبوستروم، فإن ما بعد الانسانيين سيقومون باستخدام "الطب ... التصاميم المؤسسية الاقتصادية والاجتماعية، والتنمية الثقافية، والمهارات والتقنيات النفسية". رؤية الطبيعة على أنها "عمل جار، بداية نصف خبزه" وأن الإنسانية يجب أن يجري عليها التحسين يبرز مدى اختلاف نظرة ما بعد الإنسانيين عن النظرة الإسلامية، مع قول الله تعالي " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" (القران سورة التين آية 4). في حين أنه من غير الصحيح تفسير هذه الآية على أنها تأليب الإسلام ضد تقدم الجنس البشري، فإنها بالتأكيد مؤشرا على مدى اختلاف وجهتي النظر من حيث كيف ينظرون إلى الخلق وحالة الإنسان. في القرآن الكريم آيات تسلط الضوء على أن الله قد خفف بعض جوانب حياتنا من خلال السماح لنا بتسخير الطبيعة: " وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ".." وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ" (القران سوره النحل آيات 5،7). تحسين الحياة عن طريق تسخير واكتساب سيطرة محدودة على الطبيعة، لا يتعارض بشكل أساسي مع النظرة الإسلامية. ومع ذلك، هناك بعض المسافة بين السيطرة على الماشية وتغيير الركائز الأساسية للبشر أنفسهم.
القيود البشرية
ويرى أنصار ما بعد الإنسانية أن الجسم والعقل البشريين يحدان من قدراتنا الكاملة. وبناء على ذلك، يقترحون مجموعة من المجالات التي يمكن أن تستفيد من الممارسات ما بعد الإنسانية من حيث توسيع ما هو ممكن للبشر. يقترح بوستروم أن اوضاعنا المحتملة محدودة بسبب منظورنا الإنساني: "نحن البشر قد تفتقر إلى القدرة على تشكيل فهم بديهي واقعي لما سيكون عليه أن يكون الإنسان المعزز بشكل جذري". ويزعم انه على مستوي ما يبدو أننا قد قبلنا قيودا دون التشكيك في ضرورتها. وعلاوة على ذلك، يقترح أنصار ما بعد الإنسانية مثل بوستروم على أنه في حين أننا قد يكون لدينا فكرة عما تبدو عليه ما بعد الانسانية، نحن ساذجون بشكل لا يصدق في محاولة تقدير ما قد يبدو عليه تطور ما بعد الإنسانية، مع كون تطور ما بعد الإنسانية هو الحد وراء ما بعد الانسانية.
كثيرا ما تُقلص نظرية ما بعد الانسانية إلى فكرة العيش إلى الأبد. في حين أن الاهتمام بزيادة العمر هو محور تركيز العديد من أنصار ما بعد الانسانية، بوستروم يفصل هذا الهدف باعتباره أكثر من مجرد الرغبة في العيش لفترة أطول. ويزعم أن حياة أطول ستشمل مستويات أعلى من النضج والنمو، مما يؤدي إلى مجتمع أكثر إثراء. والأمثلة التي يستخدمها لتوضيح ذلك هي بيتهوفن وجوته، الذيَن يعتبران اثنين من أعظم هدايا أوروبا الغربية للعالم من الناحية الثقافية: ما قد تكون رؤيتهم، وكيف قد تبدو أعمالهم، إذا كانوا معنا اليوم، بعد أن عاشوا لمئات السنين.
وبعيدا عن الاهتمامات المتعلقة بالعمر، فقد ركز أنصار ما بعد الانسانية على تحسين القدرات الفكرية البشرية. ويعتقد بوستروم أن ما بعد إنسانية فعالة يمكن أن تؤدي إلى تحسن في جميع قدراتنا المعرفية، بما في ذلك الذاكرة والانتباه، ومهارات حل المشاكل. ومن المثير للاهتمام، أنه يعتقد أيضا أننا قد نكون قادرين على التفكير بشكل أكثر فعالية من الناحية الفلسفية والعلمية. ويكتب: "من الممكن أن فشل البحث الفلسفي للوصول إلى إجابات متينة ومقبولة بشكل عام للعديد من الأسئلة الفلسفية التقليدية الكبيرة يمكن أن يكون راجعا إلى حقيقة أننا لسنا اذكياء بما فيه الكفاية لنكون ناجحين في هذا النوع من التحري. " كما يذكر الكهف الأفلاطوني، وكيف يوحي بأننا قد نكون محدودين بواسطة قدراتنا المعرفية الحالية.
باستحضار صور من الكتب الهزلية للأبطال الخارقين، يعتقد بوستروم أيضا في إمكانية ما بعد الإنسانية ان تؤدي إلى زيادة القدرات الحسية. لعلنا نأخذ بعض القدرات الحسية من الحيوانات، مثل التوجيه المغناطيسي، وبصر أكثر حدة، وحاسة شم أكثر فعالية، أو أجهزة الاستشعار للكهرباء والاهتزاز. ويشير أيضا إلى إمكانية زيادة مستويات الحساسية والاستجابة الجنسية. كما يجادل بوستروم لصالح الإمكانيات النفسية لما بعد الانسانية، ويتحدث عن استحضار "بهجة دائمة" وزيادة الرفاهية، قائلاً إننا تحت رحمة طبيعتنا الجينية عندما يتعلق الأمر بهذه الأمور. وعلاوة على ذلك، يعتقد بوستروم أن ما بعد الإنسانية قد تسمح لنا بتحديد إرادتنا الذاتية وطابعنا، حتى تكون مهام مثل الإقلاع عن التدخين أسهل. مما يٌمكِنا من تعديل شخصيتنا بطريقه أكثر سهولة بحيث تكون "مطابقة لمُثُلِنا".
ما بعد الإنسانية التطبيقية
النهج العلمية التي يمكن تطبيقها على الممارسات ما بعد الانسانية، مثل تكنولوجيا النانو، علم التحكم الآلي، علم الصيدلة، والعلاج الجيني، كلها بالفعل قيد التطوير والتطبيق، وإن لم تكن دائما في خدمة الأهداف ما بعد الانسانية.
تقنية النانو، وهو المصطلح المستخدم لوصف التكنولوجيات المتقدمة على مستوى ذري أو جزئي أو جزيئي (من 1 إلى 100 نانومتر) وهو في حيز الاستخدام في مجالات مثل الهندسة الحيوية، والفيزياء الحيوية، والكيمياء الحيوية. عند استخدام هذه التقنية في خدمة ما بعد الإنسانية، تقدم تقنية النانو الكثير الي المجال، بدءا من المغروسات المجهرية التي تراقب وظائفنا الجسدية، إلى أدوات التشخيص الضئيلة التي تدخل الجسم وتستخدم في تشخيص المرض بشكل أكثر فعالية.
علم التحكم الآلي هو مصطلح يستخدم لوصف دراسة وظائف التحكم البشري، مع إيلاء اهتمام خاص للطرق التي يمكن بها استخدام الأنظمة الاصطناعية لتحسينها أو حتى استبدالها. وفقا لذلك، ركز علم التحكم الآلي على سد الفجوات بين العمليات البيولوجية البشرية والأدوات التكنولوجية. المهندس البريطاني كيفن وارويك قد اختبر على نطاق واسع مختلف الأدوات السيبرنطيقية على نفسه، وزرع واجهات كمبيوتر تحت جلده وذلك ليسمح لنفسه بالسيطرة على الأجهزة الكهربائية عن بعد.
النهج الصيدلانية الما بعد الإنسانية منتشرة بالفعل، وربما يرجع ذلك إلى تخفيف حده المواقف المتخذة تجاه الأدوية ذات التأثير النفسي، والتي تستخدم منذ فترة طويلة لعلاج المرض النفسي. الصيدلانية الما بعد الإنسانية تنطوي على تحسين جانب من جوانب الأداء المعرفي لدينا باستخدام مادة دوائية. والأهم من ذلك أن هذا ينطوي على تحسين شيء ليس مريضا تشخيصيا. ومن الأمثلة البارزة على ذلك استخدام مودافينيل، وهو ما يسمى ب "العقار الذكي" الذي يزداد استخدامه في كثير من البلدان. ويقال إنه يعزز اليقظة والذاكرة ووضوح التفكير، مما يجعلها شعبية بشكل خاص بين الطلاب الذين يواجهون امتحانات وواجبات متعددة.
العلاج الجيني ينطوي على عملية استبدال الجينات الخاطئة أو المريضة بجينات أكثر صحة. إن ما بعد الانسانية تري هذه العمليات تتجاوز معالجة الجينات الخاطئة، ولكنها تستخدم أيضا في "تحسين" مجموعة سليمة من الجينات، مما يسمح باختيار الخصائص المطلوبة. مصطلح "الأطفال المصممين" دخل الآن الوعي العام، مما يعكس انتشار هذه الفكرة التي كانت بعيده ذات مره. في حين أن القوانين التي لا تزال قائمة تقيد العلاجات الجينية لغير البشر، شهد العقدين الماضيين استخدامها "لتحسين" أنواع معينة من النباتات. بتطبيقها على البشر، هذا يمكن أن يؤدي افتراضيا الي تطوير النسل الذي يمكن أن يقفز أعلى، ويتذكر أفضل، وينمو أطول، وهلم جرا.
هذه التطويرات في مراحل مختلفة، ولكنها جميعا في وقت مبكر نسبيا من دورات حياتها. والوتيرة التي تتحرك بها التكنولوجيا قدما تدفع الي توقع استخدام أوسع نطاقا لها في المستقبل القريب. كما رأينا مع التطورات العلمية الأخرى، يمكن ان نكون على بعد أقل من عام واحد عن كون أي واحد من هذه الممارسات ليست فقط على نطاق واسع، ولكن الطبيعي. إن تناول هذه المسألة أمر بالغ الأهمية بالنسبة للعالم الإسلامي. فالفشل في تلبية الطلب على الإجابات أو تقديم أجوبة في الوقت المناسب، قد يؤدي إلى زيادة الوقيعة بين الفقهاء والأشخاص العاديين.
النظام الديني لأنصار ما بعد الإنسانية
في حين المؤمنين بما بعد الإنسانية ليسوا جميعاً ملحدين (بدلاله وجود جمعية المسيحيين ما بعد الانسانيين)، فإن الغالبية تبدو كذلك، مع كون دراسة واحدة تفيد أن أكثر من 75٪ من المؤمنين بما بعد الانسانية يعرفون أنفسهم بذلك. لتعود بنا الى حركة التنوير التي يمكننا أن نرى في داخلها كل جذور الحركات ما بعد الإنسانية المعاصرة، بالإضافة الي ذلك انتشار الإلحاد، وبالتأكيد انتشار العلمانية. ومع ذلك، فإن البحث عن كثب في المواضيع الواردة في هذا الفرع من العلوم، وكذلك اللغة المستخدمة فيه، يشير إلى أنه يمكن ان يقوم ادعاء ان ما بعد الإنسانية هي في الواقع مشابهة لحركة دينية.
الأكاديمي ستيفن غولدبرغ (ت. 2010) هو واحد من العديد من العلماء الذين جادلوا بأن الحركة ما بعد الإنسانية قد ينظر إليها على أنها دينية. وإذا نظرنا إلى المسألة من زاوية حظر دستور الولايات المتحدة مطالبة الطلاب في مدرسة عامة بأن يأخذوا درسا لدين معين، يسأل غولدبرغ: "هل تتناول ما بعد الإنسانية الأسئلة الأساسية والنهائية؟" و "هل ما بعد الإنسانية شاملة؟ "، ويقترح أن الجواب على هذين السؤالين هو الإيجاب. في حين يكمل قائلا إنها لا تقترن بطقوس رسمية أو هيكل لكن يبدو أن هناك ما يكفي من الأدلة لطرح قضية أن ما بعد الانسانية هي أقرب إلى الدين، وخلص إلى أنه سيكون من غير الشريف أن يُدعي أن "تعاليم ما بعد الانسانية هي مجرد مناهج دراسية لدورة كيمياء أو دراسة استقصائية عن الفلسفة الغربية ". بهذه النقطة، سلط غولدبرغ الضوء على فكرة أنه في حين أن العلم يمكن اعتباره فرع محايد من المعرفة، ما بعد الإنسانية تحتوي بداخلها رؤية لكيف يجب على الإنسان أن يكون وهذا يجعلها أقرب إلى الدين من فرع العلم.
بيث سينغلر، من معهد فاراداي للعلوم والدين، هي أكاديمية أخرى كتبت عن أوجه التشابه بين النظرتين الدينية وما بعد الإنسانية، مشيرة إلى بعض القواسم المشتركة مثل وجود "مخلوق شبه إلهي صاحب معرفة لانهائية ... هروب من البدن وهذا العالم المحدود (رفع عقولنا). لحظة التجلي أو "نهاية الأيام" ... الأنبياء (حتى لو كانوا يعملون لدى جوجل) "، وخلصت إلى أن" الأفكار الدينية، بوعي أو بدون وعي، تعمل في روايات أولئك الذين يناقشون ويخططون ويأملون الي مستقبل يُشَكَل من قبل الذكاء الاصطناعي ". وثمة تشابه آخر يمكن ذكره هو هدف ما بعد الإنسانية وكذلك العديد من الأديان وبالتأكيد الاديان الإبراهيمية، في الوصول إلى اليوتوبيا، مع محاولة الأولى لتحقيق هذا على الأرض، في حين أن الأخيرة تهدف اليه في الحياة القادمة.
تكتسب هذه الأفكار أهمية خاصة في تسليط الضوء على حقيقة أن ما بعد الإنسانية ليست كما هو مزعوم من قبل العديد من أتباعها - حركة بعيدا عن التفكير الديني. رؤيتها باعتبارها نظرة دينية بديلة يسمح لنا بمقارنتها مع وجهات النظر العالمية الأخرى. ما تبقى من هذه الورقة يقارن بين النظرات ما بعد الإنسانية والإسلامية.