لقد أعدّ النبي ﷺ، على مدى ثلاثة وعشرين عامًا، جيل النخبة الّتي لم تشهد ولن ترى الإنسانية مثله أبدًا مرّة أخرى؛ فهذا الجيل كان عبارة عن مجموعة من الناس الضعفاء ذات الأكثرية الأمّيّة، وليسوا أكثر من رعاة غنم عزلتهم الصحراء الواسعة عن العالم؛ ولكن في غضون عقدين، وبطريقة ما، حوّلوا مجرى العالم للأبد، فكيف حدث ذلك؟ لقد أصبحوا أكثر العباد المخلصين لله في التاريخ الإنساني بعد الأنبياء، وأكثر المراقبين المطيعين للوحدانية على ظهر الكوكب. ولم يجعلهم هذا أكثر العباد إيمانًا فقط بل أيضًا على رأس المُساهمين في رخاء الإنسانية. ففي الليل، كانوا يقفوا بين يدي الله يذكروه، ويبكوا حتّى تبتل لحاهم بدموعهم، ويتعمقوا فيما أوحاه الله إلي نبيه؛ وبالنهار، كانوا يعيشون من أجلّ أهداف أسمى من أنفسهم فيشغلوها بأعمال الخير، والتعليم أو ينشغلوا بأعمال الفرسان الّذين حرروا الإنسانية من الأنظمة الطاغية. فهم فعلوا ما قاله إشعيا، وأحضروا العدل للأمم، وأخرجوا من بينهم مئات الألوف من الزاهدين، والإصلاحيين والمفكرين العظماء لقرون. لقد انبثقت في المجتمع المسلم العالمي حضارة حيث الفضيلة والعفّة هي القاعدة السائدة فيها، وكذلك لم يكن الكحول منتشرًا فيها. اليوم، ووفقًا لتقديرات منظمة الصحة العالمية، تتسبب الكحوليات بوفاة 2.5 مليون شخصًا سنويًا، ولذا فإن تأثير الإسلام على منع تعاطي الكحوليات واضح في أغلبية المجتمعات المسلمة.
إن العلامات المميزة للحضارة الإسلامية هي العدل والمساواة، التوازن والإعتدال، التنوع، التقدّم والسعي للجمال. يسافر الناس عبر البحار سعيًا لجلب تلك الفضائل لبلدانهم، ويشهد العديد من الخبراء الآمنين بأن العالم لن يكون أبدًا كما كان وقت الحضارة الإسلامية.
يقول أدم سميث (تُوفي عام 1790)، وهو اقتصادي إنجليزي في القرن الثامن عشر قاد نظام السوق الحرة في الغرب،
يبدو أن إمبراطورية الخلفاء هي الدولة الأولى الّتي تمتع فيها العالم بدرجة من الطمأنينة الّتي تحتاجها بيئة العلوم؛ فتحت حماية هؤلاء الأمراء الكرماء والمميزون استُعيد الفلسفة وعلم الفلك اليوناني القديم، وأُعيد بناؤه في الشرق. لقد تفرقت حكومة الطمأنينة، الّتي وفّروها، والعدل والدين في كلّ أرجاء الإمبراطورية المترامية الأطراف، وأحيت الفضول البشري لتحقيق المباديء الأساسية للطبيعة.
ويقول ويليام دربر الّذي ذكرنا مدحه للنبي محمد سالفًا في اعتذار:
يجب أن أدين السلوك الممنهج الّذي افتعله الأدب الأوروبي لأضع في عين الاعتبار التزاماتنا العلمية تجاه المحمديين الّتي لن تُخفى أكثر بكلّ تأكيد. لا يمكن أن يدوم الظلم الموجود في إنكار الأديان والغرور القومي للأبد.
لكن يتطلّب وضع مزايا الحضارة جانبًا، والتركيز فقط على حياة النبي وقفة رزينة. فهل عرف التاريخ من قبل أحد غيره قويَ على منع أمّة من تعاطي الكحوليات؟ لقد حقق النبي ﷺ ذلك أثناء حياته بين أُناس كان المجد والمال في حياتهم متشابكان مع الخمر. هل عُف شخصًا غيره قادر على منع العادات القديمة الخاصة بتعدد الزوجات غير المحدود بعدد، وقوانين ميراث الذكور فقط، ووأد البنات في أقلّ من عقد؟ لم تُنهي كلّ قوانين الهند اليوم الخاصة بمحاربة وأد البنات هذه العادة بعد أكثر من قرن من تنفيذها الصارم. هل يوجد حقبة أخرى استُأصل فيها العنصرية المُمنهجة نظريًا وتنفيذيًا؟ أصبح العديد من المعاصرين للنبي من العرب الماسوشيين المتعصبين في نهاية المطاف الرجال الّذين يقبلوا أن يرأسهم غير العرب وعبيدهم السابقين. قد يستشهد قرّاء التاريخ المحايدون بأن كلّ منهم رسالة نبوية مدهشة في نفسه، وأن هؤلاء وغيرهم كانوا فاعلين في الجيل الّذي تربّى تحت عناية النبي ﷺ.
خاتمة
ما نذكره هنا هو بعض من الأوامر الفريدة الّتي أعطاها الله لخاتم النبيين ﷺ. بدأ النبيﷺ بنقل هؤلاء، تحت قيادته، من أكثر المجتمعات البدائية الّتي يمكن تخيّلها والّتي لا تحكمها قوانين إلى واحد من أفضل المجتمعات الّتي يمكن رؤيتها. حينها تبنّت الحضارة الإسلامية، لما يقرب من الألف عام وخاصة خلال الفترة الأولى، التوازن الكامل بين الروحانية، والأخلاق، والحيوية العلمية والأفكار المقدمة.
أخيرًا، من الممكن وعي أن القصور الحالي للأمّة المسلمة-في بعض الجوانب-الحادث اليوم ينتقص من قدرتنا على تقدير عظمة الحضارة الإسلامية. ويساعدنا على تذكّر أن العالم المسلم لم يعاني من تلك الانتكاسات إلا في خلال الـ400 لـ500 عام الماضية، ولم تحدث إلا عندما ابتعد المسلمون عن الفهم السليم وممارسات الإسلام. ولكن ما دام المسلمون يولون اهتمامهم لدينهم، ويتقيدوا به على النحو السليم، فلن يبقى لهذا السقوط المخزي وجود.
إنها لحقيقة بينّة أن استمرار المسلمين بالعمل الجاد لا يكون إلّا عند امتثالهم للإسلام ولأوامر النبي ﷺ، خلافًا للأمم الأخرى الّتي ازدهرت لمرّة فقط عندما تخلّوا عن إيمانهم. يقاوم الكثير من العالم الحديث، لنفس السبب، مبدأ الخلط بين "الكنيسة والدولة،" لأنهم يعتقدوا أن الدين هو ما يمنعهم عن التقدّم. يرى البعض أن إحياء الدين خطوة أساسية في العودة للتخلّف والبدائية؛ ولكن، من خلال مشاهداتنا، يعتبر القوة الروحية والدينية هي القوة الدافعة الّتي حفّزت المسلمين الأوائل للتفوق في كلّ المجالات. ويجب على المُلاحظ الفطن للتاريخ، وخاصة المسلم، إقامة ذلك الفرق، لأنه لن ينهي فقط الكثير من الغموض الّذي تسببت ثقافتنا الحديثة في آخذه عن الدين بشكل عام، ولكنه يساعد أيضًا في فهم لماذا مناقشة إسهامات الإسلام مع بعض الناس أمر صعب، بغض النظر عن عدد الحقائق الّتي تُناقش-لأنهم يبدأوا المحادثة بمنظور مغاير تمامًا. أما بالنسبة لهؤلاء الّذين يبدأون باقتناع تام أن محمد هو رسول الله، فهذه هي الحالة الواضحة لبعض من نجاحاته.
1متّى 7:16، طبعة الملك جيمس
2 انظر: تاريخ التطوّر الفكري في أوروبا، جون ويليام دربر، 1863
3 انظر: تاريخ تركيا، ألفونس دي لا مارتين
4 انظر: الواقدي، المغازي والسير
5 انظر: صحيح البخاري (2529) والسيرة لابن هشام (2/312)
7 انظر: المحتضرين (294) لابن أبي الدنيا، والتاريخ (10/475) لابن عساكر
8 براون، جوناثان، محمد: مقدمة قصيرة جدًا، منشورات جامعة أوكسفورد (2011)
9 هوجارث، ديفيد، الجزيرة العربية، نُشر لأوّل مرّة عام 1923
11 تدوين: بيل موييرز يحاور كاران أرمسترونج، نظام البث العام، مارس 2002
12 انظر: تقويم لأعظم الناس أثرًا في التاريخ، مايكل هارت.
13 انظر: محمد والمحمديّة، لبوسورث سميث.
14 انظر: إدوارد جيبون وسايمون أوكلاي، تاريخ الإمبراطورية المسلمة، لندن (1870)، صـ92.
15 غاندي، المهاتما. "تجارب السجن." الهنود الشباب (11 سبتمبر 1924): صـ304.
16 انظر: تاريخ تركيا، ألفونس دي لا مارتين.
17 انظر: إدوارد جيبون وسايمون أوكلاي، تاريخ الإمبراطورية المسلمة، لندن (1870)، صـ92.
19 توينبي، أرنولد، بحث في التاريخ، منشورات جامعة أوكسفورد (نيويورك، 1948)، صـ205
23 صحيح البخاري (30) وصحيح مسلم (1661)
24 انظر: تهذيب الكمال (20/34)
25 انظر: متّى 12:18، طبعة الملك جيمس
26 انظر: تاريخ علم الفلك: مقالات أدم سميث، (لندن، 1869)، صـ353
27 انظر: تاريخ التطوّر الفكري في أوروبا، جون ويليام دربر، 1863
28 انظر: خارطة الهند، "تقرير بايج: وضع البنات الصغار في الهند 2009"، صـ21