تُمكن العبادة البشر من التمتع بالسلام الداخلي والسعادة التي تنتج عن الانخراط المباشر مع الله العظيم القريب. يُضفي هذا الإخلاص التعبدي على الروح القرب منه سبحانه وتعالى وصفاء واكتمال لا يحدث بغيره. نستطيع تحقيق هذا القرب أما عن طريق التذكر الواعي (ذكر الله) أو من خلال الحركات الجسدية التي يعيها العقل (طاعة الإله). ولذا فإن عبادة الإله تعود بالنفع على الجانب الروحاني للمرء وتؤدي إلى صفاء يجعل للحياة معنى وتُوفر مهرب من الشعور بالقلق الوجودي.
فبداخل كل إنسان رغبة في تحقيق الكمال الروحاني لا تهدأ وبدونها تعاني الروح من ظمأ شديد يعقبه هلوسات بسراب يليه آخر يخلق كلٌ منها أملاً لحظياً بواحة سحرية قبل أن يحدث الخذلان التالي. يعد هذا التشبيه تمثيلاً لمأساة التجربة الإنسانية كلما يحاول الإنسان أن يلتمس سلامه الداخلي من العالم الخارجي أو كلما حاول أن يحقق بذاته من خلال المادية. فحقيقة الأمر أننا كائنات روحانية تعيش في أجساد مادية ولسنا كائنات مادية تعيش في مكون روحاني وما نحن بكائنات ذي تركيبة مادية وروحانية متساوية. لهذا يدعو الإله البشر لعبادته وطاعته لكي يكتشفوا ويواجهون طبيعتنا المزدوجة على النحو الملائم. فكما تحتاج أجسادنا إلى التغذية لتنمو فأرواحنا في احتياج أكبر للعبادة من أجل أن تحيا وتزدهر. وأينما تغيب هذه العبادة، لا يكون الإنسان غير مكتمل فحسب بل في جوهر الأمر هولا يعيش حقاً. يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ مَثَلُ الْحَىِّ وَالْمَيِّتِ".
وليس من الغرابة أن المجتمعات الحديثة تعاني من زيادات مرعبة في معدلات الانتحار، مع وجود الكثيرين المقتنعين بأن حياتهم لا تستحق العيش. وبالفعل تثبت استطلاعات رأي جالوب بصفة مستمرة أن الدول ذات مستوى التدين المتدني تعاني من معدلات انتحار أعلى كما أكدت الدراسات أن "الدين يلعب دوراً وقائياً في العديد من السياقات التي يُجرى بها أبحاث عن الانتحار". فبدون عبادة حقة للإله، يُبتلى البشر بآفات عاطفية وسلوكية تؤدي إلى اختناقهم ومن حولهم. يقول الله العلي المتعالي في كتابه: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ" (طه 124:20). فكما أن يعد الاكسجين ضرورة للجسم ليتنفس فإن محبة الإله وتذكره ضرورة للروح لتتنفس. فمن يفهمون ذلك من عباد الإله و ينخرطون في عبادة الخالق فكأنما يصعدون جبلاً روحانياً فريداً من نوعه يمتاز بهوائه المنعش ولا تؤدي فيه المأساة البشرية إلى اليأس ولا تصاب فيه العلاقات الاجتماعية بالشلل ولا تُشيب فيها المغريات ثبات الإنسان الأخلاقي.
ولهذا تُمثل العبادة في الإسلام خارطة الطريق الحاسمة لمن يريد أن يحقق التميز الإنساني وتبدأ هذه العبادة باطنياً في شكل روحاني وتمتد ظاهرياً في شكل طابع استثنائي. فبدون العبادة، يكون البشر في طريقهم لأمراض نفسية روحية و خلل سلوكي. ولهذا السبب، وعلى خلاف رؤية معظم البشر للعبادات الدينية، يُشير القرآن الكريم أن من ضمن الوظائف العميقة للصلاة اليومية النهي عن الفحشاء والمنكر (45:29)- كما يحقق الصيام الاستقامة (183:2) وكما يعمل إعطاء الصدقة والزكاة على تطهير نفس الإنسان من الشح والمكاسب غير المشروعة (103:9).
يوضح ابن رجب، عالم اللاهوت الحنبلي الكبير (المتوفى 1393) أن "لَا صَلَاحَ لِلْقُلُوبِ حَتَّى يَسْتَقِرَّ فِيهَا مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَعَظَمَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَخَشْيَتُهُ وَمَهَابَتُهُ وَرَجَاؤُهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، وَتَمْتَلِئَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " فَلَا صَلَاحَ لِلْقُلُوبِ حَتَّى يَكُونَ إِلَهُهَا الَّذِي تَأْلَهُهُ وَتَعْرِفُهُ وَتُحِبُّهُ وَتَخْشَاهُ هُوَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَوْ كَانَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَهٌ يُؤَلَّهُ سِوَى اللَّهِ، لَفَسَدَتْ بِذَلِكَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فَعِلْمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا صَلَاحَ لِلْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ مَعًا حَتَّى تَكُونَ حَرَكَاتُ أَهْلِهَا كُلُّهَا لِلَّهِ، وَحَرَكَاتُ الْجَسَدِ تَابِعَةٌ لِحَرَكَةِ الْقَلْبِ وَإِرَادَتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ حَرَكَتُهُ وَإِرَادَتُهُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَقَدْ صَلَحَ وَصَلَحَتْ حَرَكَاتُ الْجَسَدِ كُلِّهُ، وَإِنْ كَانَتْ حَرَكَةُ الْقَلْبِ وَإِرَادَاتُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَسَدَ، وَفَسَدَتْ حَرَكَاتُ الْجَسَدِ بِحَسَبِ فَسَادِ حَرَكَةِ الْقَلْبِ".
العبادة تحرر الإنسان
خُلق البشر خصيصاً ليستثمروا حياتهم في خدمة غاية بعينها. إن السعي الدائم لغاية ما هو جانب حتمي من وظيفة البشر موضوع في فطرتنا-ومن الممكن أن نطلق عليه الحمض النووي الخارق للطبيعة. ولكن من الممكن أن يكون الإله هو الغاية التي نخدمها ومن الممكن أن نكون عبيداً لرغابتنا الجسدية، لذاتنا، أو للضغوط الاجتماعية. تحمينا عبادة الإله الحق من التشوه النفسي الروحي-من أن نكون ممزقين في آن واحد بين تلبية رغبات قوى متصارعة لا حصر لها في حياتنا. يقول الله العلي المتعالي: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" (الزمر 29:39). فمن هذا المنطلق تُحرر عبادة الإله والعبودية له البشر من الاستعباد والتكبل بأمور دونية.
فعندما يكرس البشر حياتهم لخالقهم، يستشعرون قوة عبادة من وحده يستحق العبادة. حيث يمثل استسلام قلب الإنسان وجسده للإله الحق قمة الشرف مقارنة بمهانة الاستسلام للخلق الذي لا يرحم ولا حول له ولا قوة. ولذلك يعد اعتناق نمط حياة مأسورة بعبادة الإله أصدق درجات التحرر لأنها في نهاية المطاف تخدم أعظم احتياجات واهتمامات الإنسان بينما إذا سمح الإنسان لنفسه الوقوع أسيراً لأي شيء آخر فإنه يوضع نفسه طواعيةً في زنازين العبودية. يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) بشأن هذا الصدد: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ". وهذا ما جعل ابن تيمية، بعد دخوله السجن وقبل وفاته به في النهاية، يقول: "المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه".
فمن بين من حباهم الله بمكانة اجتماعية رفيعة حولنا، من السهل ملاحظة أن عبيد الثروات والشهرة أكثر تعاسة مقارنة بمن يعتنقون نمط حياة بسيط نسبياً. تشير الدراسات إلى أن الجماعات التي تشجع المتعة
ويرون معنى ضئيل للحياة بما فيها من لذات جسدية-وبالرغم من سهولة حصولهم عليها- تكون الأكثر عرضة لإنهاء حياتهم بأنفسهم. تعاني هذه الطبقة الاجتماعية من معضلة فريدة يرثى لها: بالرغم من سهولة حصولهم على أي شيء يسهل شراؤه بالمال فإنهم لا يجدون سعادة فيما يملكون من ثروات ولا يجدون القدرة على التخلي عنها. لماذا يشعرون هكذا؟ بكل بساطة، لأنهم يؤمنون أن سعادتهم تقوم على هذه الممتلكات المادية. أما محبي الإله، فإنهم يعبدون رب العزة فحسب ويتمتعون بمتع العالم المادي في حدود دون الوقوع عبيداً له. العبادة تُشكل أساس الأخلاق بمبادئها
يجب على البشر أن يتذكروا أنهم خُلقوا لخدمة هدف بعينه وأن الإله مكنهم الأرض عن عمد. فترك هذا التصور الصحيح، يؤدي إلى احتدام جدال أخلاقي دون أي إجماع على المسائل الأساسية. فمن زاوية الدافع الأخلاقي، يلتزم الكثير من الناس خلقياً لكي يظهروا بمظهر جيد في عيون الآخرين، أو لتنشيط تدفق هرمون السعادة وقد يتوقفوا عن التصرف بأخلاق جيدة عند غياب هذه الدوافع. ولكن عندما يُعد الإنسان نفسه عبد من عباد الإله ويدرك أن المبادئ الأخلاقية تأتي من الإله وأن التصور الوحيد ذي الأهمية هو تصوره، يصبح سلوك الإنسان الأخلاقي متبعاً ومتسقاً مع المبادئ. فقد يؤدي افتقار هذا التصور إلى مشاعر متضاربة تعد غريبة إلى حد كبير على المسلمين المتدينين، لأن صورتهم كعبد في ملكوت الإله تظل حية بفضل عبادتهم المنتظمة.
فقد أظهر النبي (صلى الله عليه وسلم) في شتى مجالات حياته إدراك متسق مع كونه عبد من عباد الإله. فعلى سبيل المثال، كان صلى الله عليه وسلم يردد كل صباح ومساء: "اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَىَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ".
تُشير بوصلة المرء الأخلاقية على قيمه ومسئولياته وتمثل العبادة الأساس الوجودي لهذه القيم من خلال العلاقة مع الرب. يستطيع المرء أن يتغلب على مصاعب الحياة عندما يتقرب من الإله متمثلاً بصفات تعكس أسماء الإله وصفاته الحسنى كالرحمة والطيبة والحب والكرم. ولهذا فعندما يقوم البشر بفعل حسن كمساعدة المحتاج أو اللوذ عن الضعيف دون أن يكون هذا الفعل بنية التقرب من الخالق، فهم بذلك يغفلون عن جوهر أساس هذه الفضائل. بالإضافة إلى أن هناك مسئولية أخلاقية قوية تجاه الواحد الصمد الذي منح الحياة وأغدق نعمه التي تعادل ثروات لا حصر لها على البشرية. فبدلاً من إقرار هذا الواجب الأخلاقي الأساسي، يتمتع هؤلاء البشر بمتع هذا العالم دون أن يرفعوا يدهم حامدين شاكرين رب النعم و يحاولوا أن يتحلوا بالفضيلة في حياتهم بينما يغفلوا عن مسؤولياتهم الأخلاقية تجاه الإله. كمثل من يتجول في قصر يملكه شخص ذي ثروة ونفوذ-والمثل الأعلى لله بالطبع-ويتسكع على كرسيه المترف وينام في فراشه الباهظ (دون تدنيسه طبعاً). فبمجرد عودة صاحب القصر وهلعه من تعدي هذا الشخص وتمتعه بهذه الأشياء الثمينة دون إذن، يرد عليه المتعدي قائلاً: "أنا لم أخرب أي شيء بل حافظت على نظافة المكان" منكراً بذلك فضل الرجل المترف وسلطته على قصره المهيب. فهذا بالضبط موقف من يقوم بعمل الفضائل في هذا العالم دون الإقرار بأساس هذه الفضائل ولا بسلطة مالكها.
أضف إلى ذلك أن العبادة تؤهل الأطراف المتحلية بالأخلاق للثواب في نظر الإله. فهناك أدوات أساسية تمثل ضرورة لكي يصبح الإنسان فاضلاً وهي وجود هذا الإنسان، النية الطيبة والهبات العديدة (كالجسد والثروة وغيرهما) ليعمل الفضائل. فبما أن الإله هو المانح لكل هذه الهبات، فإن انكار الاعتراف بالإله من خلال عبادته هو في جوهره فضلاً مسروقاً. فلا الإله ولا البشر يعتبرون الأعمال المسروقة، مهما عظم تأثيرها، جديرة بالثواب. ولكن إذا وُجدت العبادة، يمكن ترجي الثواب على ما مضى ومدد للمستقبل. يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "أقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاء" . يعد سجود المرء وملامسة وجهه للأرض عبادة وتعبيراً عن أقصى درجات التذلل للإله ولهذا يكون دعاء الإله في تلك الحالة ذي قوة راجحة. وفي جوهر الأمر، فإن هؤلاء المغرورين المستكبرين عن العبادة يرفضون دعوة الإله ولذلك يقول الله تعالى: "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" (غافر 60:40).
العبادة تُنعش الإيمان
تُعلق العبادة الدائمة في الإسلام القلب بربه على مدار الساعة. فنجد القرآن يدعو إلى ذكر الإله آناء الليل وأطراف النهار وإلى تخصيص جزء من الليل لصلاة قيام الليل. كما يدعو القرآن المسلم إلى تذكر الإله بإقامة الصلوات الخمس ومن خلال الوضوء والابتهالات السابقة لتلك الصلوات ومن خلال شهر الصوم السنوي ومن خلال قراءة دورية للقرآن ككل وغيرها. تُبقى هذه الدورة البديعة القلب في حالة تناغم مع حقيقة الخلق وتأمل مستمر إزاء علاقاتهم الأساسية بالخالق. فطبيعة القلب أنه متقلب ميالاً للنسيان والدخول في حالة من الثورة والهياج أما العبادة فتُبقى القلب مصقولاً ومضيئاً. فعندما يستيقظ المرء من غفلة النوم ويتذكر الله مصلياً صلاة الفجر التي تعزز الحالة النفسية وتعدها ليوم جديد. وتذكر دعاء الخروج عند ترك المنزل يعزز مناعة المرء ضد مصاعب التعامل مع العالم المادي. كما تعمل صلاة الظهر على شحن طاقة المرء التي أشعلتها صلاة الفجر والتي قد تكون قد بدأت تخبو. فبمنتصف النهار ومع انشغالات المرء بالأمور الدنيوية التي تكاد تكون استهلكت الروح تماماً، تأتي صلاة الظهر لتعيد الروح إلى اشراقها الأصلي. وما إن تبدأ الغفلة في الرجوع مجدداً، حتي تأتي صلاة العصر لتعيد للقلب اشتياقه لربه. عند المغرب، يجد المرء خلاصه في صلاة المغرب التي تهدأ من روع روحه المنهكة القلقة. وقبل العودة إلى النوم، يُصلى المسلم صلاة العشاء منهياً اليوم في تناغم. فهكذا يستجلب أقل القليل من العبادة التدبر وتنعش إيمان المرء وتمحي أي شوائب وتُبقي القلب حياً نشطاً. فبدونها قد يصبح من المستحيل أن ينجو البشر من مشاعر الوحدة والغربة التي قد يشعرون بها حتى في وجود الأهل والمحبين. تحافظ العبادة على استقلال المرء وحقه في أن يكون أكثر من مجرد ترس يتحرك في مطحنة الحياة القاسية وتكفل له حياة متجددة من ملك الكون.
العبادة تؤدي إلى اتساق البشر مع الكون
يُلقى الكون بأكمله ساجداً بمعنى أنه يسلم لإرادة الإله في كل وقت وحين. يقول الله عز وجل: "وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ" (الروم 26:30). يُكمل الإله العلي المتعالي موضحاً أن هذا الكون الطائع خُلق لأجل خدمة الإنسان. ولذلك، فقد أُخضع كل ما هو موجود حولنا للإنسان ليس لأحقية البشرية في الحصول على أي منها ولكن لتحقق العبادة لإكمال اتساق الكون الذي يمتد من أصغر نواة إلى أكبر مجرة. يقول الله تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" (الروم 30:30). يعكس اتساق المرء طواعية مع إرادة الإله اتساق الكون قسراً مع إرادة الإله وتنعكس فوائد هذا الاتساق على البشرية بتوازنها واستقرارها بصور أبدعت الأجيال الأولى من المسلمين في تصويرها أيما ابداع.
3- يحب الإله أن يسمع عباده ويتحاور معهم
يرى بعض المشككين في الدين العبادة على أنها حوار أحادي الجهة. لكن القرآن يُخبرنا أن جوهر العبادة الدائمة يكمن في الحوار الحميمي بين الرب وعباده وأن رب العزة يستجيب للأعمال التي تهدف إلى التقرب منه بنشر الرحمة والمودة. وصف النبي (صلى الله عليه وسلم) هذه العلاقة بطرفيها موضحاً ن الإله يرد على كل آية من سورة الفاتحة عند قراءتها عدة مرات في كل من الصلوات الخمس اليومية. ففي كل مرة يصلي فيها المسلم بقلب يقظ، يجد الإله مصغياً ومجيباً بعطايا لا يقدر عليها سوى خزائن الله الكريم التي لا تنفذ.
وبعيداً عن الصلاة، يظل المسلم مدعواً للاتصال مع الإله واختبار القرب منه في كل وقت، فيقول تعالى الرؤوف: "أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً".
تؤكد هذه النصوص وغيرها فكرة أنه لا وجود لإله عدواني بارد يستمتع بهيمنة قاسية ولا حتى وجود إله يبادل التودد. ولكنه الله الأعلى الخالق-دون احتياج لأي شيء-والذي ببساطة يحب التواصل مع عباده أكثر مما يحبون التواصل معه ويسعى للتقرب منهم أكثر مما يسعون هم للتقرب منه ويسارع لهم أسرع مما يسارعون عليه.
4- العبادة هي سؤال الامتحان الأمثل
يقول الله (العلي المجيد): " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (هود 10: 118-119).
إن الله العزيز القدير خلق البشرية لتُكرس نفسها له ولأجل هذا الهدف أنزل الكتب السماوية وأرسل الرسل. بيد أنه عز وجل خلقهم أيضاً بميول مختلفة ومتعهم بدرجة كبيرة من حرية التصرف تؤدي بالمتقين للارتقاء والطالحين للتردي. ومن خلال هذا الاستقلال الممنوح من الإله، تنغمس مجموعة في العبادة مما يقودها إلى النجاة بينما ترفض المجموعة الأخرى العبادة مما يقودها إلى الهلاك. يقول الزمخشري (المتوفى 1143) أن الله قد مكن البشر "من الاختيار الذي هو أساس التكليف، فاختار بعضهم الحق، وبعضهم الباطل، فاختلفوا فلذلك قال: "وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ" إلا أناس هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه. (ثم يقول الله) "وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ" ... ليثيب مختار الحق بحسن اختياره، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره".
بالرغم من ذلك، يتضح في القرآن الكريم أن الإله يبتغي لعباده الرحمة لا العقاب. يقول الله تعالى: "وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" (فصلت 17:41). فعند تأمل الطرق العديدة والمتعددة لكسب الرحمة في الإسلام، يتضح لنا أن الإله يتمنى أن يهب عباده مكافآت لأهون سبب وأن يقبل تقريباً أي عذر ليسامحهم. يُخبرنا النبي (صلى الله عليه وسلم) أن قول "سبحان الله وبحمده" مئة مرة تحُطَّ خَطَايَا المرء، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ وأن قول "سبحان الله" مئة مرة يُكْتَبُ به للمرء أَلْفُ حَسَنَةٍ. فكيف إذاً يكون لأحدهم رأي سلبي في الإله؟ إن إدراك أن المرء سيثاب في الجنة على الدوام على كل لحظة تمر في عبادة، حتى وإن كانت لحظة تأمل أو تسبيحة منسية، هو تذكرة مذهلة بتمام لطف الإله وفضله.
إن العبادة هي المقياس الذي يختبر به صلاح البشر. وأي اختبار يستوجب درجة من التحدي لييسر تصفية من يجري تقييمهم والعبادة دائماً ما تستوجب مقاومة الولع الفطري بالراحة والاسترخاء. ولهذا يقول الله تعالى: "رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ۚ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا" (مريم 65:19). والجدير بالذكر هنا أن ما قد ينم في ظاهره على تجنب "للكرب" ما هو إلا تضليلاً في حقيقة الأمر. فمع بذل مجهود متواصل في العبادة، يقول ابن القيم: " ... ثم يفتح له باب حلاوة العبادة بحيث لا يكاد يشبع منها. ويجد فيها من اللذة والراحة أضعاف ما كان ليجده في لذة اللهو واللعب، ونيل الشهوات" ولأن الإله يرجو للإنسانية ارتقاء أسهل وعود أجمل فقد طلب منهم عبادته.
فلا يوجد وسيلة للتقييم ترقى للمقارنة بالعبادة. فبادئ ذي بدء، تحمل العبادة في طياتها نظام ثواب باطني: فمعرفة الإله تؤدي إلى العشق الذي يؤدي بدوره إلى الرغبة في التعبد، والذي بدوره يزيد من معرفة وعشق الإله، ويؤدي إلى المزيد من العبادات خالقاً حلقة استجابة إيجابية ينتج عنها المزيد والمزيد من الارتقاء الروحاني. ثانياً، يكمن اغراء العبادة العقلي في معناها الباطني. فإن كان الاختبار الحياتي يشتمل على حمل صخرة ضخمة من أدنى نقطة في وادي إلى قمة جبل وإعادتها إلى القمة كلما سقطت، لتمردت البشرية بطبيعة الحال على هذه المهمة المؤلمة عديمة الجدوى. ففي واقع الأمر، إن المصاعب التي تنطوي عليها العبادة ما هي إلا هبات خفية، كثيرة الحلاوة. فالعبادة في الإسلام فريدة حيث أنها تمنح المتعبدين دفعات من الرحمة الإلهية الثمينة في حد ذاتها وتغذي الإنتاج من خلال الجمع بين قدم ثابتة على الأرض ونظرة ثابتة إلى السماء والحياة الآخرة.