تتفق الغالبية العظمى من الفقهاء المسلمين على أن الاجتهاد الجديد ضروري لمعالجة المسائل الناشئة حديثا التي لم يسبق أن تناولها الفقهاء التقليديون. ويتفق معظمهم أيضا على أنه قد تكون هناك حاجة إلى اجتهاد جديد لإعادة النظر في الآراء القائمة في الإرث الفقهي الإسلامي واختيار من بين تلك الآراء ما هو أنسب للوقائع الراهنة. هؤلاء الفقهاء يتحدثون ببساطة عن استخدام نفس أصول الفقه المعمول بها لإعادة النظر في الأحكام الفردية. ومع ذلك، فإن مجموعة من العلماء تدعو إلى "نهج نظامية" إلى أصول الفقه نفسها وإصلاح منهجية الاستدلال. وكما هو متوقع، قوبلوا بمقاومة شرسة. إن أولئك الذين يطالبون بتجديد الأصول متنوعون جدا، ولا ينبغي التسرع في استخدام فرشاة واسعة في وصف مقترحاتهم، ناهيك عن نواياهم. سأحاول هنا دراسة ما إذا كانت هناك حاجة لإصلاح علم أصول الفقه.
أولا، كان فقهاء الإسلام دائمي الخلاف على قضايا تتعلق بأصول الفقه. قول شهير للإمام أحمد: "... من ادعى الإجماع فقد كذب ". كتب ابن رشد كتابه فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال عن الانسجام بين الدين والفلسفة. واقترح الرازي أن هناك نسخ عقلي. الطوفي مد (بحكمة أم لا) مكان المصلحة في التشريع. القرافي قسم أثار النبي ﷺ إلى فئات مختلفة على أساس الصفة التي كان يتصرف بها. هذه ليست سوى أمثلة قليلة على التجديد المستمر في أصول الفقه.
من الواضح انه حينئذ علم أصول الفقه لم يكن من المفترض أن يكون نظاما مغلقا، لأن ذلك يجعله عرضة للركود والانهيار. ومع ذلك، فإن هذا المؤلف يفترض هنا أنه ليست هناك حاجة لإصلاح علم أصول الفقه؛ بل بنية صلبة يتسم بمرونة واضحة . وإن فشلنا في الاستفادة من مرونته واكتشاف مبادئه التي تمكنه من التجديد تجعل بعضنا يتسرع إلى الرغبة في إصلاحه. ما نحتاجه حقا هو تعلم التجديد التدريجي في هذا العلم. بعد قول ذلك، يجب أن نعترف بأن هناك اراء، اعتمدتها أحيانا الأغلبية، تسببت في بعض الركود والصلابة في أصول الفقه واستخدامها العملي. وكانت هذه الآراء أساسا في مجال الاجتهاد. وسأبدأ هنا بتناول بعض هذه الآراء وأثرها على تطوير الفقه؛ ثم أتحدث عن المرونة الموجودة في علم أصول الفقه الذي ينبغي استخدامها لخدمة أغراض التكيف والتجديد في خطابنا الديني. وأخيرا، سأقترح بعض المجالات التي قد يكون من المستحسن إجراء تغيير فيها.
آراء تعوق التجديد المستمر للخطاب
الإفراط في نقل الإجماع
لا شيء يمكن أن يخنق التجدد القائم على الاجتهاد أكثر من الإفراط نقل الإجماع. في بعض الأحيان، نقل الفقهاء الإجماع في مسائل تمت مناقشتها بقوة داخل المذاهب الأربعة، ناهيك عن خارجهم. وكان هذا في بعض الأحيان بسبب استخدام مصطلحات خاصة أو ببساطة نتيجة أخطاء بريئة. حتى أولئك الفقهاء المعروفين بممارستهم الصارمة للتحقيق نقلوا مئات من حالات الإجماع بعد عصر الصحابة التي هي صعبة للغاية، إن لم يكن من المستحيل - إنشاءها. و سأقتبس من الشيخ محمد الخضري، الذي يشاطره رؤيته العديد من الباحثين المعاصرين في علم أصول الفقه. هو يقول: (السؤال وهو: هل أجمعوا فعلا على الفتوى في مسألة عرضت عليهم وهي من المسائل الاجتهادية؟ ويمكن الجواب علي ذلك: بأن هناك مسائل كثيرة لا يعلم فيها خلاف بين الصحابة في هذا العصر، وهذا أكثر ما يمكن الحكم به، أما دعوى العلم بأنهم جميعا أفتوا بآراء متفقة والتحقق من عدم المخالف فهي دعوى تحتاج إلى برهان يؤيدها، أما ما بعد ذلك العصر- عصر اتساع المملكة وانتقال الفقهاء إلى امصار المسلمين ونبوغ فقهاء آخرين من تابعيهم لا يكاد يحصرها العد مع الاختلاف في المنازع السياسية والأهواء المختلفة – فلا نظن دعوى وقوع الاجماع إذ ذاك مع ما يسهل على النفس قبوله مع تسليم أنه وجدت مسائل كثيرة في هذا العصر لا يعلم أن احداً خالف في حكمها، ومن هنا نفهم عبارة الإمام أحمد ابن حنبل : " من ادعى الإجماع فهو كاذب لعل الناس قد اختلفوا ولكن يقول : لا نعلم الناس اختلفوا اذا لم يبلغه". وبعض فقهاء الحنابلة يرى أن الإمام يريد غير إجماع الصحابة)
بينما كان ابن حازم باحثا مثقفا وكان واحدا من هؤلاء المعروفين بالتحقق من التقارير، فإن كتابهُ مراتب الإجماع، الذي نقل فيه إجماع الفقهاء، نقل فيه الكثير من الإجماعات المشكوك فيها ما دفع ابن تيمية إلى كتابة أطروحة بعنوان "نقد مراتب الإجماع" للإشارة إلى تلك التقارير الخاطئة. ومن المثير للاهتمام أن إجماعا نقده ابن تيمية متعلق بكفر من يرفض إجماعا معينا بعد الاعتراف بصحته.
من الأهمية بما كان أن نقدر جمال مبدأ الإجماع، التي ليست أداة للحفظ فحسب، بل هي أيضا ترياق للاستبداد الكهنوتي. في أمة لا أحد فيها يتحدث باسم الله بعد الرسول ﷺ، وهذا المذهب يوفر أداة ليست فقط للمحافظة، ولكن أيضا للكفاءة والتسامح والقدرة على التكيف. ومع ذلك، فإننا بحاجة إلى فحص موضوعي للإجماع الذي تم نقله، ونحن بحاجة إلى تطبيق معايير صارمة قبل أن نقبله، لأن مجرد القبول من شأنه أن يعطي الطابع النهائي على رأي معين ووضع حد لأي نقاش علمي. نطبق معايير صارمة قبل أن نصحح التراث النبوي ، على الرغم من أنها قد لا تعطي نفس الحسم مثل الإجماع، بسبب مضمونها المتضارب في كثير من الأحيان. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن نتعامل مع الاجماع السكوتي الذي يشكل الجزء الأكبر من الإجماع، كأدلة تعزيزية فقط بسبب طبيعته المفترضة.
هل يمكن أن تكون هناك حقيقة خارج المذاهب الأربعة؟
المذاهب الأربعة في الإسلام السني هي الإنجازات الفكرية التي يجب أن يفخر بها أي مسلم سني. ساهم الآلاف من الفقهاء من خلال جهود متعددة التخصصات وعبر الأجيال لإنتاج هذه العجائب الفكرية. حجتهم وحاجتنا لهم واضحة كالشمس في منتصف يوم صيفي، كما يقول المثل العربي. كما أن الغالبية العظمى من فقهاء المسلمين يوصون أن طالب المعرفة يوجه أولا بواسطة واحدة من المدارس الأربعة. ويمكن للمرء أن يضيف أيضا أن الحقيقة لا تخرج عن آراء المذاهب الأربعة إلا نادرا جدا. قال الإمام ابن تيمية: "وقول القائل: لا اتقيد بأحد هؤلاء الائمة الأربعة. إن أراد: انه لا يتقيد بواحد بعينه دون الباقين، فقد أحسن، بل هو الصواب من القولين، وإن أراد: أني لا اتقيد بها كلها، بل خالفها، فهو مخطئ في الغالب قطعاً، إذ الحق لا يخرج عن هذه الأربعة في عامة الشريعة. ولكن تنازع الناس: هل يخرج في بعض المسائل".
أي محاولة للتقليل من كل أو بعض أو أي من المذاهب الأربعة هو اعتداء على الأمة وتراثها. ومع ذلك، فإن وجود فهم متوازن بشأنها أمر ضروري. لا يمكن للأمة أن تتحمل التأرجح مع بندول التطرف. "مكافحة المذهبية" أمر خاطئ، ولكنها ليست سبب جميع أمراض أمتنا، كما يحب بعض العقائديين على الطرف الآخر من الطيف أن يؤمنوا. هذا التخفيض المبسط للظواهر المعقدة ليس جديدا على التفكير البشري. ومع ذلك، يبدو بغيضا للغاية للحقائق ومفهوم السببية نفسه. بعد كل شيء، من الذي يجرؤ أن يدعي أن الأمة كانت بخير قبل هذه "الظاهرة الجديدة"؟ هذا ليس فقط حول الهزيمة من قبل القوى الخارجية، ولكن أيضا التخلف، والصراع الداخلي، والتعصب، سواء بين الطوائف أو بين المذاهب. اشتكى علماء التحقق خلال أوقاتهم من ظروف الفقه والفقهاء. أدى الركود داخل المذهب إلى الانقسام بين الفقه واحتياجات الشعب، مما دفع القادة، قبل فترة طويلة من الحقبة الاستعمارية، إلى إصدار تشريعات تعسفية. بالإضافة إلى ذلك، لماذا البلدان والمجتمعات التي لم تتأثر بهذه "الظاهرة الجديدة" ليست أفضل من تلك التي تأثرت؟
بعد أن قلت ذلك، هذه ليست مناقشة لأهمية إرث المذاهب الأربعة، ولا محاولة للحكم بين المتنافسين على طرفي الطيف المتعلق بها. إن النقاش هنا يتعلق بوجود حقيقة خارج ما اتفقوا عليه، وهو اتفاق يعامله العديد من علماء المسلمين كإجماع ملزم. وقد ذهب بعض العلماء بعيدا بقدر ما يدعون أن هناك إجماعا على أنه في مجالات الفتوى والحكم على الأقل، لا يجوز لأي فقيه أن يتخذ رأيا خارج المدارس الأربعة. وطبقا لدار الفتوى المصرية، فإن هذا الاتفاق يخضع للتغيير مع مرور الوقت، وعادات الناس، وقبول الآراء الأخرى والثقة بها. كما أنها تخضع للتطبيق من قبل الدولة. أكثر ما قد يقوله أحدهم عن هذا الاتفاق - وهذا أمر صعب تحقيقه للغاية - هو أنه كان قرارا إجرائيا قد يكون له بعض الجدارة في مرحلة ما، ولكن ليس بأي حال من الأحوال اجماع ملزم يجب على الأمة أن تلتزم به إلى أجل غير مسمى. من المثير للاهتمام أن نلاحظ هنا أن الخلاف بين الفقهاء السابقين لم يكن حول التزام المجتهد باتباع رأي مجتهد آخر، بل حول جوازه. وقد سمح به الإمام أبو حنيفة، في حين أن الإمام الشافعي يحظره، حيث قال الأخير إن مستوى اليقين الذي يكتسبه الشخص من اجتهاده يجب أن يتجاوز ما يمكن اكتسابه عن طريق اجتهاد شخص آخر.
كلما نسعى إلى إصدار حكم بشأن قضية معينة، فإنها إما مسألة معاصرة أو مسألة تم تناولها سابقا. إذا كانت جديده، فإن رأي المذاهب الأربعة ليس حاضرا، إلا من خلال التخريج (شكل من أشكال الاستدلال القياسي القائم على رأي في مذهب)، والذي عادة ما يقدم بعض المرونة وغير ملزم بشكل خاص. إذا كانت المسألة سبق تناولها، فإن السؤال هو ما إذا كان الرأي خارج اتفاق المذهب الأربعة قد يكون له أي قيمة.
ولئن كان من الجدير بالمسلمين أن يكونوا حذرين من الآراء التي تتعارض مع اتفاق الأئمة الأربعة، فإن هذا الحذر لا ينبغي أن يستبعد تماما مثل هذه الآراء. قال أبو الخطاب (متوفي 510 هجري) في كتابه التمهيد في أصول الفقه:
"أن أدلة (الإجماع) لا تتناولهم ، لأنهم بعض المؤمنين وبعض الأمه، ولأن الإمامة لا تأثير لها في الإجماع".
وكان ابن تيمية يحمل نفس الرأي، وذكر عدة حالات حيث انشق بعض أتباع الأئمة الأربعة عن اتفاقهم. وبينما كان الإمام القرافي أحد العلماء الذين نقلوا عن ابن الصلاح الاتفاق على اتباع أحد المذاهب الأربعة، قال في مكان (وسياق) مختلف أنه تم التوصل إلى إجماع خلال وقت الصحابة أن كل من يتحول إلى الإسلام قد يطلب الفتوى من أي من العلماء وليس ملزما أن يسأل بعض منهم، وأن من سأل أبو بكر وعمر لا يزال له ان يسأل معاذ وأبو هريرة وغيرهم، وتحدي أي شخص ادعى انه تم إلغاء هذا الإجماع لإيجاد أدلة بذلك. وأوضح الإمام ابن حجر الهيتمي الشافعي أنه يجوز للفقيه أن يتبع اجتهادا خارج المذهب الأربعة ما دام موثقا جيدا وأن شروطه وكل التفاصيل اللازمة معروفة، وعزا هذا الإمام إلى الإمام السبكي. وقد عزا الإمام النفراوي المالكي هذا الرأي إلى بعض فقهاء التحقيق، دون حد جواز التقليد علي الفقهاء.
ما يجب أن يكون واضحا أنه لا يوجد مبرر مشروع بأن اتفاق المذهب الأربعة ينشئ إجماعاً، وإذا لم يحدث ذلك، فلا توجد أسباب لإضافة موافقتهم على مصادر التشريع. وينبغي أن يكون اتفاقهم بمثابة علامة تحذير للمجتهد على المضي قدما بحذر وغير المجتهد للتوقف. وكما ذكر أعلاه، حتى أولئك الذين لم يسمحوا للجمهور أن يتبعوا أحدا غير من المذهب الأربعة أدركوا أن الحقيقة قد تكون موجودة خارج اتفاقهم، وأنهم سمحوا للفقيه (الفقهاء: المتخصصون في الفقه) باعتماد رأي خارج المدارس الأربعة. وكما ذكرنا في مناقشتنا للمرونة القائمة في إطار أصول الفقه، فقد سمحوا أيضا باستخدام اراء غير مصرح بها في المذاهب لأسباب صحيحة.
في عصرنا هذا، ما الذي يمكن عمله لحماية الناس من فوضى الفتاوى غير الخاضعة للتنظيم هو التأكيد على المبادئ التوجيهية التي يجب اتباعها في تعميم الآراء التي تتعارض مع اتفاق المذاهب الأربعة (وهو ما سيتم تناوله لاحقا) والمضي قدما بالاجتهاد الجماعي، الذي يمنح صلاحيات أكبر للآراء الجديدة، كما قال الشيخ مصطفى الزرقا عندما تحدث عن إعادة فتح أبواب الاجتهاد.
من الأمثلة على الاجتهاد الجماعي الجديد قرار الجمعية الفقهية لمنظمة التعاون الإسلامي بشأن عقد الاستصناع الذي يمكن بموجبه للمشترين شراء منازل غير مبنية ودفع ثمنها على هيئة أقساط. وتعتبر هذه المعاملة نوعا من السلم (البيع مع الدفع مقدما) من قبل المدارس المالكية والشافعية والحنبلية، مما يعني أن جميع شروط السلم سوف تنطبق عليه، بما في ذلك الدفع الفوري لكامل السعر. والسبب في هذا الشرط بالتحديد هو أن المعاملة لا تصبح محظورة بسبب تأجيل كل من السعر والسلع (بيع الكالئ بالكالئ). ومع ذلك، يعتبره الإمام أبو حنيفة عقدا منفصلا حيث إنه، على عكس السلم، ينطوي على تصنيع السلعة. هذا الرأي يسمح للمشتري لدفع الثمن على أقساط. ومع ذلك، وفقا لأبو حنيفة، فإن هذا العقد يتحول إلى سلم إذا تم تحديد موعد نهائي لتقديم السلعة. وكان لصاحبيه رأي مختلف، وسمحا بتحديد موعد نهائي. وأشارت جمعية الفقه لمنظمة المؤتمر الإسلامي إلى أنه ينبغي تحديد موعد نهائي، وأن هذا لا ينبغي أن يغير العقد من استصناع إلى السلم، مما يسمح بدفعات مؤجلة. وهكذا، وافقت الجمعية على بيع المنازل قبل تشييدها ودفع الثمن على أقساط إذا كان هناك وصف دقيق للعقار. وهذا حكم هام حيوي لازدهار صناعة كبرى. اعتمادها من قبل مجلس فقهي والذي أدى إلى إزالة الانزعاج الذي قد يكون لدى كثير من الناس بسبب تناقضها مع وجهة نظر المذاهب الأربعة. ويمكن أن يقال نفس الشيء عن رأي ابن تيمية من الطلاق الثلاثي المركب. عدها على أنها طلقة واحدة. وكان رأيه يتعارض مع الرأي المأذون به للمذاهب الأربعة. وقد أدي اعتماد هذا الرأي من قبل دار الفتوى في العديد من البلدان الإسلامية، بما في ذلك مصر وسوريا والأردن إلى قبوله من قبل التيار العام. وباختصار، يمكن القول إن تعميم الآراء الخارجة على اتفاق المذاهب الأربعة يجب أن يكون مرهونا بتصديقها من قبل الاجتهاد الجماعي أو قبول مجموعة كبيرة من فقهاء التحقيق.
المرونة في أصول الفقه
أهداف الشريعة والإصلاح
مقاصد الشريعة ودورها في التجديد موضوع نقاش متكرر ودائم. الأهداف الأساسية للشريعة، كما استنتجها الفقهاء، هي الحفاظ على الدين والنفس والعقل والنسل والشرف والمال من الناس. الشريعة لا تفاضل فقط بين هذه الأهداف، ولكنها تعترف أيضا بثلاثة مستويات في كل منها: التحسينات، و الحاجيات، والضروريات. الجانب الثالث من العبقرية هو مرونة الشريعة حيث يتم تقديم تنازلات من أجل الضروريات، وإلى حد ما، لتلبية الحاجيات أيضا.
المفكرون المسلمون الذين كانوا يبحثون عن طريقة لإصلاح العقل الجمعي الإسلامي، مثل الناقد المغربي البارز وأستاذ الفلسفة محمد عابد الجابري، كان يأمل، كما قال في كتابهِ وجهات نظر، أن استخدام المقاصد سيكون مفتاح هذا الإصلاح. ورأوا أن مثل هذا الاستخدام - مقترنا بفهم سليم للواقع الذي من المفترض أن تطبق الأحكام فيه - سيؤدي إلى نهضة كبرى في المجتمعات الإسلامية. ولا شك أن هذا صحيح. ومع ذلك، تنشأ مشكلة عندما يسعى بعضهم إلى استخدام المقاصد بمعزل عن الأحكام المفصلة في كتب الفقه وحتى في الأدلة النصية. المقاصد هي أعلى مستوى من التجريد في الشريعة الإسلامية، مثل القيم السامية المطلقة لأفلاطون (الحقيقة والجمال والخير) وشعار الثورة الفرنسية (الحرية والأخوة والمساواة). وعلى الرغم من أن البشر قد اتفقوا بشكل دائم على مزايا هذه القيم، إلا انهم دائما ما اختلفوا على خارطة الطريق لهم. هذا هو المكان الذي تسطع فيه الشريعة، لأنها التي تمنح الهداية نحو تحقيق تلك الأهداف والقيم العظيمة، راويةً لعطش الإنسانية للتوجيه. من الناحية اللغوية، تشير الشريعة إلى طريق يؤدي إلى مصدر للمياه. الماء ضروري لبقائنا المادي، وتوسل الهداية الإلهية من الله ضروري لبقائنا الروحي (وعموما) البقاء.
إن الموقف الوسطي بين أولئك الذين يبالغون في فائدة المقاصد وأولئك الذين يرفضون دورها في توجيه اجتهاد الفقيه، في اعتقادي، هو أن الفقيه يجب أن يكون دائما على دراية بالمقاصد (كما ورد في مناقشة البراهين العقلانية)، ولكن لا ينبغي له أن يتحايل على الأحكام التفصيلية، ومنهجية الاستنتاج، أو القواعد الفقهية لتحقيق تلك الأهداف. وعليهم أن يقدموا تبريرا صحيحا إذا قرروا استخدام الاستحسان أو أي وسائل فقهية أخرى لتحقيق تلك المقاصد. إنهم هؤلاء الخبراء الفقهيين الأكثر ملاءمة لتوظيف المقاصد دون المساس بمنهجية الاستنتاج المبينة في أصول الفقه. وسوف يكونون دائما قادرين على إيجاد وسيلة لتحقيق المقاصد بطريقة سليمة من خلال الفهم السليم للأدلة النصية والقواعد الفقهية. وهذه الأخيرة في مستوى أقل من تجريداً عن المقاصد، وبالتالي هي الأكثر اعتباراً.
إن الخطأ الذي يقع فيه العديد من المطالبين بالتجديد من خلال فهم المقاصد هو المبالغة في تقدير قدرة العقل البشري على استيعاب تلك المقاصد بشكل مستقل. والخطأ الذي يقع فيه خصومهم المعارضين هو التقليل من شأن العقل البشري، الأمر الذي يؤدي إلى حالة ركود ويحرم الشريعة من مرونتها في معالجة الحقائق المتغيرة باستمرار - وهي جودة بارزة تضمن حيويتها المتسامية.
دور العقل البشري
والسؤال الملحوظ هنا هو ما إذا كان العقل البشري كافيا في تحقيق المقاصد المذكورة أعلاه. وقد اختلف الفقهاء على قدرة البشرية على التمييز بين الخير والشر (الحسن والقبيح). اعتقد المعتزلة أن العقل البشري قادر تماما على ذلك (ويتحمل المسؤولية عنها أيضا). وقال العديد من الأشاعرة وبعض الاثريين أنه لا يقدر (لكنهم ظلوا يستخدمون التفكير العقلاني في المسائل الفقهية). حافظ كثير من الماتريدية والأثريين، بمن فيهم ابن تيمية، على موقف وسط، وقالوا إن العقل البشري قادر جزئيا على هذا التمييز؛ ومع ذلك، فهو غير مكتمل وغائم بسبب النفس، والتحامل، والجهل، وهلم جرا. كما أكدوا، مثل الاشاعرة، على أن الناس ليسوا مسؤولين على أساس هذا التمييز حتى يأتيهم الوحي من الله. الرأي الأخير له ميزة كبيرة، لأن جميع البشر يتفقون على بعض المستويات على نظام متسق موضوعي من القيم الأخلاقية الأساسية. وتقر الشريعة بأن آلية التمييز موجودة في كل إنسان. ويطلق عليها الفطرة. واستنادا إلى هذا الرأي الذي نسبه ابن تيمية إلى غالبية أهل السنة، فإن العقل له دور كبير في رسم خارطة الطريق من خلال ضمان فهم متين للشريعة والمقاصد وفهم واضح للواقع الذي تعمل فيه الشريعة. قبل أن نتحدث عن التفاعل بين العقل والشريعة، يجب أن نسأل عن نطاق عمل كل منهما. ما هي الأجزاء ومقدار حياتنا الذي تسيطر عليه الشريعة، وكم تبقى للعقل البشري؟ كمسلمين، نحن نلتزم بما هو إلهي. الحياة نفسها هي هدية منه. نحن نعيش به ومن أجله. ومع ذلك، كم ترك الله لنا أن نقرر لأنفسنا، في حين لا نزال تحت سلطته؟ التناقض بين الإلهي والعلماني في خطابنا الحديث كمسلمين حاد. في كثير من الأحيان، أنصار العلمانية يعتدون على مكان الإله في "المجال العام". ومع ذلك، نحن بحاجة إلى أن نسأل أنفسنا إذا كان العكس هو الصحيح أيضا. عندما تسمع عن العيادات التي تدعي لعلاج المرضى الذين يعانون بالطب النبوي، يجب أن تجد الفكرة مسيئةً للنبي ﷺ نفسه وتعاليمه. ﷺ كان، بعد كل شيء، من قال، "أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ". (رواه مسلم)
صحيح أن النبي ﷺ وصف بعض الأدوية. ومع ذلك، فقط عدد قليل جدا من هذه الوصفات لها دلالة على أن مصدرها الوحي الإلهي. وإلا فإن النبي ﷺ استخدم الأدوية المتاحة له في الوقت وفي المكان الذين عاش فيهم. في حين أن بعض الفقهاء، مثل ابن القيم، يعتقدون أن كل وصفاته معصومة، والبعض الآخر، مثل القاضي عياض وابن خلدون، يعتقدون أنها ليست كذلك. باستثناء عدد قليل من الوصفات الطبية التي لها بعض الدلائل من أصل الوحي الإلهي، فإن الرأي الثاني يبدو أكثر اتساقا مع الحديث أعلاه، وكما أشار ابن خلدون، ﷺ جاء ليعلمنا عن الدين، وليس عن الطب وما شابه ذلك. أيا كان الرأي الذي أنت أكثر راحة معه، الحقيقة التي لا ينبغي تفويتها هو أنه لا يوجد نوع منفصل من الطب يسمى "الطب النبوي".
تزداد المسألة إثارة للجدل عندما تتعلق المناقشة بالسياسة أو الاقتصاد أو الجوانب الأخرى للسياسة العامة. من المتوقع أن تكون هناك تعليمات ومبادئ توجيهية إسلامية بشأن هذه المسائل. ويبدو أننا تخلينا بشكل انتقائي عن بعض من أكثرها وضوحا، مثل مفهوم الشورى، والذي، إذا رأينا أنه ملزم، يمكن ترجمته على أنه "حكم الأغلبية". وبعد أن قلت ذلك، يبدو أن تلك المجالات تركت منظمة تنظيما خفيفا جدا ودون تعليمات مفصلة من أجل السماح للإبداع البشري وترك مساحة واسعة للعقل البشري أن يقرر ما هو مناسب في أوقات وأماكن مختلفة. إن كنا أمرنا بالالتزام بالديمقراطية المباشرة، فإن الأمر غير قابل للتطبيق لأكثر من اثني عشر قرنا لأنه ببساطة مستحيل لوجستيا. وكان من شأنه أيضا أن يمنع الناس من اختيار شكل من أشكال حكم الأقلية التمثيلية إذا وُجد أنها أكثر ملاءمة في ظروف معينة. إن النقاش الذي لا نهاية له حول كون الإسلام رأسمالياً أو اشتراكياً أو نظاما منفصلا تماما هو مؤشر على التنظيم الخفيف في هذا المجال الذي سمح بإجراء هذه المناقشة بين الفقهاء والمفكرين الصادقين.
بعيدا عن وضع الحدود بين الإلهي والعلماني، فإن التفاعل بين العقل والشريعة هائل. أحد أدوار العقل، المهتدي بنص الوحي والتراث، هو دراسة التراث في ضوء الوحي والمقاصد والقواعد الفقهية، وتحديد الآراء الأكثر قابليه للتبرير والأكثر ملاءمة. كتب الامام ابن القيم، "الشريعة مبناها وأساسها على الحكمة ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، ومصلحة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلي الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة الى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل".
هذه الآراء، التي تم تضمينها من خلال سوء تفسير الشريعة (وهذا يعني هنا الإرث الفقي)، تحتاج إلى تعريف. إن الفحص النقدي للتراث العظيم للفقهاء ليس هجوما على الشريعة، ما دام يقوم به خبراء مؤهلون، للأغراض الصحيحة، وباحترام مشايخنا الفكريين، أولئك الذين أمضوا حياتهم في خدمة الدين وفروعه الدراسية.
العقل له دور آخر هنا يتعلق بتغير الحقائق. الفتوى هي حكم محدد، أو تطبيق الشريعة في تفاصيل معينة، لذلك هي تخصيص حكم لحالة معينة. بل إن هناك عنصرا إنسانيا هنا - ومن ثم هامش أكبر من الخطأ - إذ أن الفتوى تتطلب فهم نصوص الشريعة، فضلا عن فهم الوضع الذي يحكم عليه. عندما تضيف إلى هذا التغيرات الهائلة التي حدثت في العالم خلال المائتي سنة الماضية، سوف تكون قادرا على تقدير مقدار الجهد الذي ينبغي أن يبذل في دراسة الفتاوى في كتب الفقه التقليدية قبل أن نسرع في تطبيقها على الحقائق الحالية. إذا اتبعنا تعبير الإمام الرازي، سيكون هناك الكثير من النسخ العقلي، وهو إلغاء الحكم بسبب غياب مجال عمله. ومع ذلك، فإن كلمة "النسخ" هنا قد استخدمت بشكل فضفاض من قبل الرازي. يمكننا القول ببساطة أن القاعدة غير قابلة للتطبيق بسبب غياب شروط تطبيقه، كما قال الإمام القرافي.على سبيل المثال، قد يكون شرط الإمام (رئيس الدولة الإسلامية) ان يكون من قبيلة قريش ببساطة، كما أكد ابن خلدون، لنزع فتيل الصراع والفوضى في الخلافة المباشرة للنبي ﷺ. في الوقت الحاضر، الملايين من الناس تتبع جذورها إلى قريش، وليس هناك طريقة يمكن الاعتماد عليها للتحقق من صحة ادعائهم. ولذلك، يعتبر الكثيرون أن هذا الحكم غير قابل للتطبيق.
أولئك الذين يتقنون العلوم المختلفة ومجالات النشاط البشري سيكونون أفضل الناس لتوظيف مبادئ القيم الإسلامية في تلك المجالات. يحتاج الفقهاء إلى أن يكون لديهم بعض التمكن من هذه المجالات لتوفير التوجيه المناسب فيها. ثم يجب أن نلجأ إلى تقسيم الاجتهاد، حيث يكون السعي للفتوي من الفقهاء في مجالات تخصصهم. وإذا لم يكن ذلك ممكنا دائما، فقد يكون من الضروري إجراء الفتاوى في هذه المسائل بشكل جماعي مع كون الفقيه هو آخر موقع، بعد الاستماع إلى مختلف الخبراء والتعلم بما فيه الكفاية حول المسألة المطروحة.
التوسع في استخدامنا للأدلة العقلية
هناك تأكيد مفترض في أصول الفقه القائم على حُجِّيَّة الأدلة النصية (القرآن والسنة وفتاوى الصحابة)، ولكن هناك أيضاً اعتراف بعدد وافر من الأدلة العقلية، مثل القياس، المصلحة المرسلة، الإستحسان، العرف وسد وفتح الذرائع، وتمثل هذه الأدلة العقلية مستودع كبير من أدوات التمكين من التجديد عندما يتناولها الفقيه مع علمه بمقاصد وحِكَم الشرع.
فعلي سبيل المثال، توفر الأشكال المختلفة للقياس قوة و مرونة كبيرة لقوام الفقه، و ينطبق هذا بشكل خاص على القياس الأقل تقنية، والذي يكون أكثر مراعاة للمقاصد ومبدأ العدالة. كما أن استخدام الحكمة (والتي هي السبب الرئيسي وراء تشريع حكم معين)، بالإضافة إلى "العلة" (التي هي الوصف الباعث علي الحكم) سيعطي حيوية كبيرة للقياس. و الاعتداد بحكمة النص عندما تكون ظاهرة ومنضبطة هو مذهب الآمدي، ابن الحاجب، الصفي الهندي وأكثر الحنابلة. وتلك الطريقة أيضا هي التي يلحق بها القرآن الأحكام بالحكمة المطلقة من تشريعها. حتى عندما يشدد بعض العلماء على أن القياس لا يمكن أن يقوم على الحكمة، تجدهم يأخذون بها عند تطبيقهم للقياس. و مثال جيد على ذلك، حكم الجمع بين الصلوات في حال المرض حيث أن هذه الحالة ليس لها دليل محدد في نص الوحي، فتجد المالكية والحنابلة وكثير من الشافعية يُجيزون جمع الصلوات بالنسبة للمرضي قياساً علي حكم جمع الصلوات في حالة السفر والنزيف لفترات طويلة بجامع دفع المشقة في كل. فالمشقة في هذه الحالة ليست علة جمع الصلوات بالنسبة للمسافر وانما هي الحكمة من ذلك. ونجد أن الحنابله يستخدمون هذا الأساس المنطقي لتوسيع قائمة الأعذار التي يصلح معها الجمع بين الصلوات لتشمل أسبابا مختلفة قد تسبب مشقة أو ضرر لشخص ما بصحته أو كرامته أو حتى سُبل عيشه. وبنائاً علي ذلك جعل ابن تيمية (رضي الله عنه) حكم جواز الجمع بين الصلوات يشمل الخباز الذي يخشى أن يفسد عجينه إذا تركه. وايضاً قد دفع تفهم ابن تيمية للحكمة من تحريم شرب الخمر إلى أمر أصحابه بعدم منع التتار من شرب الخمر، فقد استنتج ابن تيمية أنه إذا أصبح الغزاة مخمورين، قد يكون الناس آمنين لبعض الوقت من شرهم، لأنهم كلما كانوا في وعيهم، نهبوا المدينة ونشروا الأذى.
والاعتداد بحكمة النص لا يقتصر على استخدامها في القياس، فإن الحكمة لها أثرها في فهم النص ذاته، فعلي سبيل المثال تجد الأحناف والمالكية يأخذون بالحكمة المطلقة في تشريع التيمم، بالإضافة إلى عوامل أخرى، حيث يعتبرون أي سطح من الأرض مناسب للتيمم، خلافا لأولئك الذين
يأخذون بالمعني الحرفي للنص فيقصروا ذلك على التربة.
ويكون الاعتداد بحكمة النص خلف مفهوم الاستحسان، الذي يعتبر ترياق للحَرْفِيَّة والتقنية التي قد تحبط المُثل العليا والأهداف الشريعة بدلا من خدمتها. فهو يستبدل قياس ثابت بقياس بديل يخدم مُثل العدالة والمصلحة العامة بطريقة أفضل. وبهذا الشكل من الاستحسان أخذ الإمام أبو حنيفة (رضي الله عنه) وتلامذته البارزين في الأصل، و ليس هو الشكل الذي استنكره الإمام الشافعي والإمام أحمد عندما واجهوا بعض علماء الحنفية الذين كانوا يمارسونه في وقت لاحق كما نوه ابن تيمية. قال الآمدي (الفقيه الشافعي) أنه على الرغم من استنكاره الصريح للاستحسان، إلا أن الإمام الشافعي نفسه قد لجأ إلي الإستحسان في عدة مناسبات.
فعلى سبيل المثال، اتفق فقهائنا عرفاً أنه يجوز للمديونين أن يطرحوا ديونهم من أصولهم عند حساب الزكاة. ومع ذلك، في الوقت الحاضر يتحمل الناس الديون لشراء الأصول المعمرة، مثل المنازل وأدوات الاستثمار. فإذا سمحنا للناس بطرح قروضهم العقارية والديون المتكبدة لشراء آلات مصانعهم من أموال الزكاة، فإن العديد من الأثرياء لن يدفعوا الزكاة على الإطلاق. واستبعد العلماء، عن طريق الاستحسان الفقهي، ديون الاستثمار من تلك الديون التي يمكن طرحها من الأصول التي عليها زكاة . وهذا الاستحسان ملتزم بروح تشريع الزكاة وأهدافها وحكماتها، بما في ذلك إعطاء الأولوية لحقوق الفقراء.
ومكان المصلحة فالشريعة الإسلامية مقرر، سواء اعترف الفقهاء بالاستصلاح كمصدر للتشريع نظريا أم لا. والحقيقة أن جميعهم يأخذون في الاعتبار المصلحة في استنتاجهم الفعلي للأحكام. والسؤال هنا لا يتعلق بالاعتداد بالمصلحة بل يتعلق بقوتها عند مواجهة المعنى الصريح أو الضمني لنص الوحي. ويجد المرء أن العلماء يختلفون في هذا الشأن: فآراءهم تقع على نطاق واسع، بداية من نجم الدين الطوفي (رضي الله عنه) الذي أعطى للمصلحة حجية غير مقيدة إلى حد بعيد، إلي غيره من العلماء الذين اقتصروا على الاعتداد بها في الحالات التي لا يوجد فيها في الوحي مصدر أعلي للتشريع؛ وحتى في ذلك الحين، يجب أن يتم الاعتراف بهذه المصلحة من قبل الشريعة. إذا ربطنا ذلك بدور المقصد في التجديد، في بوسعنا ببساطة توسيع المصلحة المعترف بها لتشمل أي فائدة منسجمة مع مقاصد الشريعة: أي كل الفوائد التي يعترف بها العقل السليم. وحيثما يكون هناك تعارض بين المنفعة المتصورة ونص الوحي، يكون الفحص الدقيق لكلا الأمرين مكفول من قبل اساتذة الفقه المؤهلون. هناك دائما خطأ، سواء في تقدير الفائدة، أو بسبب إغفال الأضرار المرتبطة المتجاوزة، أو في فهمنا للنص.
"الأعراف ملزمة" هو مبدأ قانوني في الشريعة الإسلامية. العرف الذي لا يتعارض مع الشريعة هو الذي بالتالي يكون له حجية و يعترف به كدليل. وبعبارة أخرى، يعتبر المشرع الأعراف عاملاً حاسما في الأحكام المتعلقة بالتعاملات بين الأشخاص، وليس كمصدر مستقل للقانون، وعادة ما يكون مصدر ثان يضمن التطبيق السليم للنص.
يقول الله تعالى:
خُذْ الْعَفْوَ وَأمُرْ بِالْعُرْفِ وَأعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ (الأعراف:٧\199).
ويقول تعالى أيضاً:
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ (البقرة: ٢\٢٢٨).
إن ما هو "معروفاً بكونه حسن" و "يعتبر معقولا" يترك لحكم المجتمع، ما دام لا يوجد تعارض مع نص واضح من الوحي.
ومن الأمثلة على الاعتداد بالمعايير الاجتماعية ما رواه أبو داود عن حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ عن ابيه:
أَنَّ نَاقَةً، لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطَ رَجُلٍ فَأَفْسَدَتْهُ عَلَيْهِمْ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ الأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ وَعَلَى أَهْلِ الْمَوَاشِي حِفْظَهَا بِاللَّيْلِ.
إذا اتفق الناس في زمان أو مكان مختلفين على أنه يجب على أصحاب الماشية مراقبتها طوال الوقت، فإن عرفهم سيكون أساس الحكم بينهم. قال الإمام القرافي:
مَهْمَا تَجَدَّدَ فِي الْعُرْفِ اعْتَبِرْهُ وَمَهْمَا سَقَطَ أَسْقِطْهُ وَلَا تَجْمُدْ عَلَى الْمَسْطُورِ فِي الْكُتُبِ طُولَ عُمْرِك بَلْ إذَا جَاءَك رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ إقْلِيمِك يَسْتَفْتِيك لَا تَجْرِهِ عَلَى عُرْفِ بَلَدِك وَاسْأَلْهُ عَنْ عُرْفِ بَلَدِهِ وَأَجْرِهِ عَلَيْهِ وَأَفْتِهِ بِهِ دُونَ عُرْفِ بَلَدِك وَدُونَ الْمُقَرَّرِ فِي كُتُبِك فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْوَاضِحُ. وَالْجُمُودُ عَلَى الْمَنْقُولَاتِ أَبَدًا ضَلَالٌ فِي الدِّينِ وَجَهْلٌ بِمَقَاصِد عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالسَّلَفِ الْمَاضِينَ.
وكتب الإمام ابن القيم:
وَمَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِمُجَرَّدِ الْمَنْقُولِ فِي الْكُتُبِ عَلَى اخْتِلَافِ عُرْفِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَأَمْكِنَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهِمْ فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ، وَكَانَتْ جِنَايَتُهُ عَلَى الدِّينِ أَعْظَمَ مِنْ جِنَايَةِ مَنْ طَبَّبَ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ بِلَادِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَطَبَائِعِهِمْ بِمَا فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الطِّبِّ عَلَى أَبْدَانِهِمْ، بَلْ هَذَا الطَّبِيبُ الْجَاهِلُ وَهَذَا الْمُفْتِي الْجَاهِلُ أَضَرُّ مَا عَلَى أَدْيَانِ النَّاسِ وَأَبْدَانِهِمْ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
ومن خلال هذا المبدأ، تقر الشريعة بأعراف الناس المتفاوتة، وعاداتهم وتقاليدهم، وتحافظ على الهويات الثقافية للدول المختلفة. و ينطبق هذا أيضا على الناس في الأزمنة المختلفة، لاستيعاب التغيرات التي يجب على الأجيال المختلفة التعايش معها. باختصار، فإن التوسع في استخدام الأدلة العقلية التي تسترشد بالمقاصد وتراعي القيود التي حددها نص الوحي والإجماع الصحيح من شأنه أن يوفر مصدر هام للمرونة ويعمل كأداة للتجديد.
مرونة نظرية الاجتهاد الحالية
استشهد الإمام ابن تيمية بقول من سبقه من العلماء
إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة
إن رحابة إرث الاجتهاد لدينا والاختلافات العديدة بين المذاهب المختلفة والمجتهدين المستقلين قد أصابت بعض طلاب الفقه وصغار الفقهاء بخيبة أمل. ومع هذا فإن ذلك يُعتبر مصدراً كبيراً للمرونة التي تفتح الطريق أمام التجديد. فالعديد من أتباع المذاهب الأربعة قد أجازوا – حتى للعامة- التنقل من مذهب إلى مذهب والتخيُّر والتلفيق بين المذاهب، وهو ما يقوم به كثير من العلماء الملتزمين بشكل كامل بمذهبهم وذلك ضمن الجمعيات الفقهية المعاصرة.
فيما يخص مفهوم التنقل من مذهب إلى مذهب كتب الإمام ابن نجيم الحنفي قائلاً:
يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ شَاءَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، وَإِنْ دُوِّنَتْ الْمَذَاهِبُ كَالْيَوْمِ وَلَهُ الِانْتِقَالُ مِنْ مَذْهَبِهِ لَكِنْ لَا يَتَّبِعُ الرُّخَصَ فَإِنْ تَتَبَّعَهَا مِنْ الْمَذَاهِبِ فَهَلْ يَفْسُقُ وَجْهَانِ. قَالَ الشَّارِحُ أَوْجَهُهُمَا لَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ عَقَدَ فِي أَوَّلِ التَّتَارْخَانِيَّة فَصْلَيْنِ فِي الْفَتْوَى حَاصِلُ الْأَوَّلِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ لَا تَحِلُّ الْفَتْوَى إلَّا لِمُجْتَهِدٍ وَمُحَمَّدٌ جَوَّزَهَا إذَا كَانَ صَوَابُ الرَّجُلِ أَكْثَرَ مِنْ خَطَئِهِ وَعَنْ الْإِسْكَافِ أَنَّ الْأَعْلَمَ بِالْبَلَدِ لَا يَسَعُهُ تَرْكُهَا.
بينما يقول الإمام زكريا الأنصاري الشافعي:
(يَجُوزُ) لِغَيْرِ الْمُجْتَهِدِ (تَقْلِيدُ مَنْ شَاءَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ إنْ دُوِّنَتْ الْمَذَاهِبُ كَالْيَوْمِ) فَلَهُ أَنْ يُقَلِّدَ كُلًّا فِي مَسَائِلَ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَسْأَلُونَ تَارَةً مِنْ هَذَا وَتَارَةً مِنْ هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ (وَلَهُ الِانْتِقَالُ مِنْ مَذْهَبِهِ) إلَى مَذْهَبٍ آخَرَ سَوَاءٌ قُلْنَا يَلْزَمُهُ الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الْأَعْلَمِ أَمْ خَيَّرْنَاهُ كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ فِي الْقِبْلَةِ هَذَا أَيَّامًا، وَهَذَا أَيَّامًا (لَكِنْ لَا يَتَّبِعُ الرُّخَصَ) لِمَا فِي تَتَبُّعِهَا مِنْ انْحِلَالِ رِبْقَةِ التَّكْلِيفِ (فَإِنْ تَتَبَّعَهَا مِنْ الْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ فَهَلْ يُفَسَّقُ) أَوْ لَا (وَجْهَانِ) أَوْجَهُهُمَا لَا بِخِلَافِ تَتَبُّعِهِمَا مِنْ الْمَذَاهِبِ غَيْرِ الْمُدَوَّنَةِ فَإِنْ كَانَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ فَلَا يُفَسَّقُ قَطْعًا وَإِلَّا فَيَظْهَرُ أَنَّهُ يُفَسَّقُ قَطْعًا.
يوافق هذا الرأي رأي الحنابلة، حتى أن أبا الخطاب الكلوذاني - رحمه الله – ذكر الاجماع على ذلك. كما يذكر القاضي أبو يعلى – رحمه الله – العديد من الأخبار عن أحمد أنه أجاز لأتباعه وغيرهم من الذين سألوه، أن يجدوا رخصة في فتوى غيره من العلماء وأحياناً كان يُرشدهم إلى فتاوى عبد الوهاب الوراق وإسحق وأبو ثور بل كان يُرشدهم إلى مجالس هؤلاء العلماء. فمن الجلي أن أبا يعلى (ت. 458 هـ) يرى أن هذا المفهوم لا يقتصر على المذاهب الأربعة وحدها.
فائدة الآراء الضعيفة وآراء غير المؤهلين للاجتهاد
حتى لو كان الرأي ضعيفاً فإنه قد يُستخدم أحياناً في إزالة الضرر شريطة أن تتحقق فيه شروط بعينها وهي التي نظمها صاحب مراقي السعود المالكي في أبياته:
وكَوْنِهِ يُلْــجى إليهِ الضَّرَرُ إنْ كانَ لَمْ يَشْتَــدّ فِيهِ الخَوَرُ
وثَبَتَ العَــزْوُ وقَـدْ تَحَقَّقَا ضُرّاً مَن الضُّرُّ بِهِ تَعَلَّــــقَا
ويمكن أن يُضاف إلى هذين الشرطين شروط أخرى قد نقلها القرافي عن بعض فقهاء المالكية السابقين:
- ألا يبحث المرء عن الرخصة في كل شيء.
لعل هذا جزء من الشرط المذكور سابقاً وهو وجود الضرورة الملجئة. ولهذا فإن المرء لا يجوز له أن يستعرض كل مذاهب الفقهاء السابقين بغية العمل بأيسر رأي في كل مسألة. وهذا رأي جمهور الفقهاء. والبعض أجاز ذلك.
كما أنهم أيضاً أرجعوا ذلك إلى عمر بن عبد العزيز حين قال:
مَا أُحِبُّ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخْتَلِفُوا؛ لأَنَّهُ لَوْ كَانُوا قَوْلا وَاحِدًا كَانَ النَّاسُ فِي ضِيقٍ وَإِنَّهُمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ وَلَوْ أَخَذَ رَجُلٌ بِقَوْلِ أَحَدِهِمْ كَانَ فِي سَعَةٍ.
ومع هذا فإن جهور الفقهاء يرون أن هذا الرأي محمول على قصد جواز العمل بأيسر آراء من بلغوا مرتبة الاجتهاد ما دام ذلك يجنبه بعض الضرر ولكنه لا يجوز له أن يأخذ بجميع الآراء اليسيرة التي يجدها.
- ألا يعمل المرء برأي يخالف الإجماع. (هذا ينطبق أكثر على التلفيق).
نقل القرافي عن الزناتي أن للمرء أن ينتقل من مذهب إلى مذهب بثلاثة شروط هي: 1) ألا يجمع بين آراء المذاهب المختلفة على وجه يخالف الإجماع؛ 2) أن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره إليه 3) ألا يتتبع رخص المذاهب. وقد عقب القرافي أن الرخص التي لا تُتبع هي ما لا نقره مع تأكده بحكم الحاكم.
كما أن التلفيق الذي يؤدي إلى جمع الآراء التي رفضتها كل المذاهب يجب أن تكون محرمة في بعض المسائل. فلو أن أحدهم كان مقلداً لإمام في بعض شروط البيع وكان آخر مقلداً في شروط أخرى فإن هذا العقد يبقى صحيحاً ما لم تنازع إحداها الأخرى أو تؤدي إلى غبن أو انحراف يتنافى مع مقاصد الشريعة الإسلامية. وهذا يعتمد على الرأي الأقوى القائل بأن العامي لا مذهب له. ومن أمثلة التلفيق المحرم الزواج بدون شهود وهو منقول عن الإمام مالك، والزواج دون إشهار وهو منقول عن الجمهور. فمثل هذا الزواج يُعتبر علاقة سرية محرمة عند الجميع. مثال آخر على ذلك هو أن يطبق المرء على نفسه مبادئ تختلف عن تلك التي يطبقها على غيره، كاستخدامه حق الشفعة مع جاره ولكنه مع ذلك يأبى أن يمنح غيره هذا الحق ليستخدمه ضده.
يجب أن يكون الاختلاف واضحاً بين هذه الأمثلة وبين مسألة العامي الذي يسأل اثنين من المفتين عن مسألتين مختلفتين تتعلقان بالوضوء، فيفتيه المفتي الشافعي بأن مسح أي جزء من الرأس كافٍ، ويفتيه الحنفي أن لمس المرأة دون شهوة لا ينقض الوضوء. فإن اتبع المذهب الشافعي في وضوئه ثم لمس امرأة دون شهوة فإنه يبقى على وضوئه عند المذاهب الأربعة. فعلى الرغم من ذلك يبقى الوضوء صحيحاً. فهاتان المسألتان ليس بينهما ترابط أو تعارض. ومع أن جمهور الفقهاء - بعد القرن العاشر- قد منعوا ذلك فإننا لا نجد لذلك ذكراً قبل القرن السابع. كما أن الصحابة قد أجمعوا أن من سأل أبا بكر وعمر عن مسألة له أن يسأل معاذاً وأبا هريرة وغيرهم عن مسألة أخرى. حيث أنهم أبداً لم يحصروا ذلك في المسائل التي لا ترتبط بعبادة واحدة. فلولا إباحة التلفيق المنظم لما كان لكثير من العقود الحديثة أن تكون جائزة طبقاً لمذهب واحد، ولنتج عن ذلك ضرر كبير ولفقد الإرث الفقهي على اتساعه أحد خصائص مرونته وتشكله المهمة.
يمكن لنا أن نضيف شرطاً آخر هنا وهو أن المتبع للرأي الضعيف يجب ألا يكون على يقين من الخطأ الذي وقع فيه صاحب هذا الرأي. يقول الإمام الشافعي:
أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله ﷺ لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناسومع أن الشافعي يتحدث هنا عن العلماء، إلا أن ذلك يجوز أن يشمل كافة الناس الذين استيقنوا خطأ رأي ما. يقول وابصة بن معبد - رضي الله عنه – أتيت رسول الله ﷺ فقال جئتَ تسأل عن البر؟ قلت: نعم فقال:اسْتَفْتِ قَلْبَكَ؛ الْبِرُّ مَا اطْمَأنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ
اقتراحات حول التجديد التدريجي
أتناول هنا بعض جوانب المرونة وبعض الاقتراحات التي من شأنها تحسين أداة الأصول الحالية في إنزال التشريعات على المستجدات:
- إزالة المواضيع التي لا نفع بها وإضافة غيرها، مثل المبادئ الفقهية التي تعتبر مجالاً مختلفاً عن المعرفة مع أنه من الواجب إعادة دمجها مع علم الأصول حيث يساعد ذلك بشكل كبير في استنباط الأحكام. كذلك دمج دراسة علم الأصول مع علم المقاصد وهو ما يعتبر أساسياً لدور المقاصد المؤثر في توجيه النظرية بكاملها. أخيراً دمج دراسة علم الأصول مع علم تخريج الفروع على الأصول الذي يدرس تعقب الآراء المتنوعة في الفقه حتى الوصول إلى أصلها في أصول الفقه. وأضيف هنا أنه من المهم تحديث الأمثلة التي يحتويها علم أصول الفقه واستبدالها بأمثلة معاصرة وذات علاقة بتطبيق المبادئ على الأحكام المفصلة، وبذلك يمكن لصغار الفقهاء أن يتدربوا على التصدي للمسائل المعاصرة.
- إيلاء اهتمام أكبر بمصادر الدليل العقلي التي تناولناها سابقاً.
- إضافة دلالات المقصود إلى أبواب الدلالات والتي تدرس قواعد التأويل، حيث أن لدينا نوعين رئيسيين من الدلالة: دلالة المنطوق ودلالة المفهوم. وبما أن الفقهاء كانوا دائماً مدركين لأهمية المقاصد فقد يكون ذو نفع أن نضيف دلالة المقصود إليها. فقد تكون هذه الإضافة إبرازاً لأهمية تضمين المقصد الشرعي من البداية عند فهم النص. حيث أحياناً ما يعتقد صغار الفقهاء أن الفقهاء الذين يقبلون دلالة المخالفة ثم يرفضونها إنما يعارضون أنفسهم عند قيامهم باستنباط الأحكام، بينا فعل هؤلاء العلماء ذلك فقط بسبب إدراكهم للمقاصد الشرعية التي أدت بهم إلى إلغاء آرائهم السابقة على أساس هذا المفهوم. وسيكون من المفيد شرح ذلك بشكل أوضح من أجل أن يتعلم صغار الفقهاء تضمين دلالة المقصود في منهجية استنباطهم للأحكام.
- يجب إيلاء اهتمام أكبر بالاجتهاد الجماعي في أبواب الاجتهاد وهو ما ناقشناه سابقاً، حيث يلزم إدخال خبراء في مجالات متنوعة ضمن هذه العلمية.
- هناك أيضاً حاجة إلى إيلاء اهتمام أكبر بالاجتهاد التخصصي أو ما يعرف بتجزؤ الاجتهاد. يحث يتمكن العلماء من التخصص في أبواب معينة من الفقه وبذلك يكونون مؤهلين أكثر في هذه الأبواب. وهذا ليس بمفهوم جديد، فالحقيقة أن جمهور الفقهاء قد أجازوا تجزؤ الاجتهاد كما ذكر الإمام ابن النجار الفتوحي الحنبلي – رحمه الله – الذي قال "(الاجتهاد يتجزأ) عند أصحابنا والأكثر وهو الرأي الصحيح"
- أخيراً هناك حاجة لمراجعة الآراء الأصولية التي لربما أعاقت تطور الإرث الفقهي مثل المبالغة في نقل الإجماع واشتراط اتباع أحد المذاهب الأربعة دون غيره مع تجنب أي اجتهاد مخالف حتى من فقهاء مؤهلين.