يُطهِّر الله بعض الناس من فساد أرواحهم خلال عذاب جهنم، ويُبَرهِن لهم نفاسة الخَلاص، وينتقم لهؤلاء الذين اضطُّهِدُوا. ومَن ثمَّ، يمنح الله أبعاد متعددة من الرحمة في أثناء صُلْب فِعله عزوجل لعقاب الآخرة. دعونا نوضح كلاً من هذه الأبعاد الثلاثة لندرك كيفية حدوث هذه الرحمة.
أولاً: تُقَدِّم جهنَّم ـ على الأقل بالنسبة للمؤمنين ـ دوراً علاجياً بتحويل الأرواح الخبيثة إلى أرواحٍ نقية كي تتمكن من دخول الجنة. فهل من الممكن أن ترفض أٌم عملية لطفلها أو حالة بتر بعد فشل كل الخيارات الأخرى؟ هل تعتبر هذا الإجراء القاسي أي شيء غير تعاطفاً؟ وبالمثل، أفادت أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها: " أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي، فَأَخْبَرَنِي - أَوْ قَالَ: بَشَّرَنِي - أَنَّهُ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ " قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: "وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ". وفي حديث آخر " وَفِي جَهَنَّمَ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ ". قَالُوا نَعَمْ. قَالَ " فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَمَرَ اللَّهُ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، فَيُخْرِجُونَهُمْ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ، فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلاَّ أَثَرَ السُّجُودِ". ويُفصِّل ابن القيِّم رحمه الله القول في كتاب حادي الأرواح:
"أنَّ النار خلقت تخويفًا للمؤمنين، وتطهيراً للخطَّائين المجرمين، فهي طُهرةٌ من الخبث الذي اكتسبته النفس في هذا العالم، فإن تطهَّر هاهنا بالتوبة النصوح، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة لم تحتج إلى تطهير هناك...
وليس لله سبحانه غرضٌ في تعذيب عباده بغير مُوجِب، كما قال تعالى: "مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا"، واستمر الأشقياء مع تغيير الفطرة، ونقلها مما خلقت عليه إلى ضده، حتى استحكم الفساد وتم التغيير، فاحتاجوا إلى إزالة ذلك إلى تغييرٍ آخر، وتطهير ينقلهم إلى الصحة حيث لم تنقلهم آيات الله المَتلُوَّة والمخلوقة، وأقداره المحبوبة والمكروهة في هذه الدار، فأتاح لهم آياتٍ أُخَر وأقضيةٍ وعقوبات فوق التي كانت في الدنيا تستخرج ذلك الخَبَث والنَّجاسة التي لا تزول بغير النار، فإذا زال مُوجِب العذاب وسببه، زال العذاب وبقي مقتضى الرحمة لا مُعارِض له.
وبعبارةٍ أخرى، ينال بعض الناس النقاء الروحي في هذه الحياة الدنيوية باتباع أوامر وإرشادات المولى عز وجل، حيث أن من لا يفعل ذلك في الحياة الدنيا سيتم استئصال فساد روحه في الآخرة بنار جهنم، وسيتوقف استكمال العقاب حالما يتم إزالة شرهم، ويُكمل ابن القيم لِيُضيف استنباط عقلي مُثيراً للاهتمام بقوله:
"وقد اقتضت حكمته سبحانه أن جعل لكل داءٍ دواء يناسبه، ودواء الداء العُضال يكون من أشق الأدوية، والطبيب الشفيق يكوي المريض بالنار كيَّاً بعد كي لِيُخرِج منه المادة الرديئة الطارئة على الطبيعة المستقيمة، وإن أراد قطع العضو أصلح للعليل قطعه، وأذاقه أشد الألم . فهذا قضاء الرب وقدره في إزالة مادة غريبة طرأت على الطبيعة المستقيمة بغير اختيار العبد، فكيف إذا طرأ على الفطرة السليمة مواد فاسدة باختيار العبد وإرادته؟ وإذا تأمل اللبيب شرع الرب تبارك وتعالى وقدره في الدنيا وثوابه وعقابه في الآخرة وجد ذلك في غاية التناسب والتوافق وارتباط ذلك بعضه ببعض، فإن مصدر الجميع عن علمٍ تام، وحكمةٍ بالغة، ورحمة سابغة، وهو سبحانه الملك الحق المبين، وملكه ملك رحمة وإحسان وعدل".
إنَّ حكمة الله اللامنتهية اعتبرت الآخرة هي تكملة لهذه الحياة وانعكاساً لها. لذلك مثلما يتم اللجوء إلى طرق العلاج القاسية في الدنيا، سيكون هناك جهنم في الآخرة. فإذا كانت ضرورية ولها مبرراتها و تدار بعناية، فهي ليست ضد الرحمة في شئ. وقد يدفع البعض بأن الطبيب سيزيل عنصر الألم بدون تردد إذا كان بإمكانه ذلك، فلمَ لا يُطَهٍّر الله الأرواح بدون ألم؟ ويقترح ابن القيم أنَّ الألم نفسه وتلقِّ الجزاء هو الذي يقوم بتطهير الروح الخبيثة.
ثانياً: عقاب بعض الناس في نار جهنم يجعل سكان الجنة مغمورين بالامتنان لرؤية ماذا كان سيكون قَدَرُهم لولا عناية الله وفضله وإن كان هذا البعد بُعْداً دقيقاً من أبعاد الرحمة. يقول المولى عز وجل:
"كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ".
سيُخَلَّد هؤلاء في الجنة بحبهم لله، و سيدركون ما أنجاهم الله منه، وسيعلمون أن نعيمه أبدي ويستحق أكثر بكثير من كل الأعمال التي فعلوها من أجله.
ثالثاً: يُعَد عذاب الناس في جهنم نوع من أنواع الرحمة للذين تتم مواساتهم برؤية ظالميهم يتلقون عقاباً إلهياً تماماً مثلما ذكّر المولى عز وجل بني إسرائيل بإغراقه فرعون "وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ". كذلك سيسمح الله عز وجل بوجود نوافذ على جهنم تمنح المظلومين السِّلوان بالسماح لهم برؤية انتقام الله عز وجل لهم من الذين سلبوا ثرواتهم وقتلوا أطفالهم وشوهوا نفوسهم وما شاكله.
من المحتمل أن تشرح هذه الأسباب الثلاثة بالإضافة إلي أسباب أخرى كثيرة علة ذكر جهنم في معظم النقاشات المفضية إلى الرحمة في القرآن. فعلى سبيل المثال، توضح سورة الرحمن رحمة المولى عز وجل من البداية إلى النهاية، وعلى الرغم من ذلك فهي لا تستثني ذكر وصف قصير لجهنم قبل دخولها في وصف أطول بكثير لنعيم الجنة الأبدي. هذا يُعلِمنا حقيقة جوهرية ضرورية عن الذات الإلهية: أن رحمة المولى عز وجل نافذة في كل أفعاله وقراراته وجليةٍ واضحة لمن يتدبر.