الحربُ والإسلامُ وحُرمة الحياة: حظر العدوان في الفقه العسكري الإسلام
مــقــدمــة
نعلم جميعًا أن حماية الحياة قيمة أساسية وهدف في حد ذاته في الإسلام. فحري بالسلام أنه الوضع الطبيعي بين الناس، دون النظر إلى الاختلافات في الدين أو الفلسفة أو أي شيء آخر. ولكن ينهزم يخنع السلام على حساب درء العدوان والظلم عن الأبرياء. وتحقيقًا لهذه الغاية، أرسى الإسلام ومبادئه قواعد تتعلق بالحرب. وكلاهما-الإسلام ومبادئ الإسلام-يبرران إعلان الحرب وكيف تكون الحرب عادلةً بعد إعلانها. استُهل تقليد الحرب العادلة في الإسلام بعدد من المبادئ المتفق عليها في نظرية الحرب العادلة الحديثة وأنذر بها.
يركز هذا المقال على الجزء الثاني من نظرية الحرب العادلة في الإسلام: أي الأحكام المحددة التي تحظر الاستخدام المفرط للقوة. هذه القواعد تحمي حياة المدنيين وممتلكاتهم وبيئاتهم، وتضمن معاملة أسرى الحرب معاملة إنسانية، وتحظر أي وسائل ومخططات عسكرية تنطوي على استخدام التعذيب أو الإرهاب.
مبدأ حظر العدوان
هناك مبدأ أساسي يسري في جميع التعاليم الإسلامية بشأن الحروب وهو حظر العدوان، فلا يجوز شن عدوان أو الرد عليه إلا بما يتناسب معه في القوة. فأساس هذا المبدأ هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار". وقد أصبح هذا الحديث واحدًا من القواعد الخمس الأساسية التي تحكم جميع التصرفات في الشريعة الإسلامية.فكل فعل يتسبب في ضرر لإنسان أو حيوان حرام، إلا إذا كان لجلب منفعة أكبر أو درء أذى أكبر وفقًا للقاعدة الفرعية، "الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف"، أي أن الإسلام يحرّم إحلال الضرر الأخف بضرر أشد منه.
تُعد الحروب إحدى أكبر الأفعال البشرية التي تسبب ضررًا للناس والحيوانات والبيئة. ومن ثم فلا يصح نشوب الحرب إلا لدرء ضرر أشد كما قال الله تعالي: "الفتنة أشد من القتل". أما الفتنة التي تستنكرها هذه الآية فالمقصود منها قبيلة قريش التي كانت تقمع اعتناق الإسلام وممارسة شعائره، مما حرم المسلمين حينذاك من أداء فريضة الحج في المسجد الحرام في مكة المكرمة، وكانت تجبرهم على الخروج من ديارهم دون سبب إلا لما يعتنقونه ويؤمنون به. على الرغم من الحرب التي تنطوي على القتل هي شر لا محالة، فإن شر الفتنة في الدين أكبر منها وأعظم. وقد كانت الفتنة في ذلك الوقت قيدًا عنيفًا لممارسة الدين وقمعًا عدوانيًا ممنهجًا للفقراء والضعفاء. وقد كان إرساء الحرب العادلة للإسلام ضمانًا بألا يتحمل المسلمون نفس المعاناة التي عانى منها أسلافهم.
كان الوصف التاريخي للعلماء المسلمين في بعض الأحيان يُفسر بطرق ما تبدو وكأن هذا الوصف انتهاكًا لمبدأ عدم العدوان. فعلى سبيل المثال، وضع بعض الفقهاء مفهومًا يطلق عليه "جهاد الطلب" يعني مهاجمة العدو في عُقر داره. وهو مفهوم مماثل للمفهوم الغربي للحرب الاستباقية، أي مهاجمة التهديد المؤكد. وفي ظل عالم ما قبل الحداثة المتمثل في توسيع الإمبراطوريات الحاكمة، اعتبرت هذه الأعمال "الهجومية" ضرورية لأغراض الدفاع عن النفس. وكما يقول العرب "عندما لا تشرع بشن هجوم على الرومان، فسيشرعون هم". ومن هذا المنطلق فقط ذهب بعض الفقهاء إلى أن الآية {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ "منسوخة من "آية السيف". وكما أوضح ذلك المفسر البيضاوي، فإن الآيات الأخيرة تأذن بالحرب ضد "من يقاتلونكم أو من تتوقعون ذلك منهم". لم يُلغى مبدأ عدم العدوان في حد ذاته أو يُنسخ، بل أُمر المسلمون بالشروع في مهاجمة التهديدات الفعلية التي تهدد سلامتهم، وكانت حينئذ الإمبراطوريتان الرومانية والفارسية، بدلاً من الشروع بالهجوم عليهم في أراضيهم.
ولهذا السبب أكد فقهاء مثل ابن تيمية أن القرآن ومعظم العلماء لا يأذنون بالحرب إلا إذا بدار العدو بالحرب أو لوّح بها. -وقد استثنى ابن تيمية من العدوان جميع فئات الناس "أهل الممانعة والمقاتلة"، أي أولئك الذين يهاجمون المسلمين أو الذين يمنعونهم من ممارسة دينهم. "وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزمن ونحوهم فلا يقتل إلا أن يقاتل بقوله أو فعله".
إن مبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بعدم العدوان لا يمنع فقط الحروب الجائرة من نشوبها، بل يمنع أيضًا ممارسة الظلم حتى بعد إعلان الحرب. ونلفت الأنظار هنا إلى كيفية وضع الإسلام للقواعد، على أساس عدم العدوان، للحد من أضرار الحرب إلى أقصى حد ممكن.
العدالة في الحرب
كما أن "الفتنة أشد من القتل" هي الآية الرئيسية التي تصف ما يجيز الحرب العادلة، فإن الآية التالية تسلط الضوء على المعايير الإسلامية بشأن العدالة في الحرب أو كيفية مُجابهة الحرب على نحوٍ صحيح ضمن قواعد الاشتباك:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}. الله لا يحب أولئك الذين تجاوزوا الحدود
كانت هذه الآية الأولى في القرآن الكريم التي تأمر المسلمين بالقتال. فقبل هذه الآية وغيرها من الآيات التي تجيز القتال للمسلمين، أوصى القرآن المسلمين بالتحلي بالصبر وتحمل الألم الذي كان يلحق بهم من الكفار، حتى أنه أوصاهم بالتجاهل والعفو عما سلف". بيد أنه عندما كان لزامًا على المسلمين القتال ومجابهة العدوان، خشية قتلهم، فقد نزلت هذه الآية لتأمر المسلمين بالحرب. ومن هذه الآية اشتق عديد من القواعد الإسلامية المهمة المعنية بالاشتباك العسكري.
فالمبدأ الأول والأهم هو: لا تقاتلوا إلا من قاتلوكم.
إذ تنص الآية صراحة على "قاتلوا الذين يقاتلونكم"، وبالتالي لا يجوز استهداف المدنيين. وكما يقول مايكل ولزر، الباحث البارز في نظرية الحرب العادلة الحديثة، إن قتال المقاتلين لا يمكن إلا عند إعلان الحرب رسمياً.والإسلام يتمم هذه الحجة. وقد استمد الفقهاء المسلمون من الآية المذكورة أعلاه عدم جواز قتل الذين لا يشاركون في القتال الفعلي، وخاصة النساء والأطفال والمسنين والكهنة والرهبان والمعوقين، وحتى العمال والمزارعين الذين يعملون لدى العدو وليسوا مشاركين مباشرة في القتال.
ويبرز هذا في قول أبو بكر، أقرب الصحابة إلى النبي-صلى الله عليه وسلم-وثاني الأمراء المسلمين، عندما أمر جيشه (وفقًا لما ورد في أقرب دليل للشريعة الإسلامية:
ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له... لا تقتلن امرأة ولا صبيًا ولا كبيرًا هرمًا ولا تقطعن شجرًا مثمرًا ولا تخربن عامرًا ولا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا لمأكله ولا تحرقن نخلا ولا تفرقنه ولا تغلل ولا تجبن.
وقد سبقه النبي-صلى الله عليه وسلم-بعدد من التصرفات والتوجيهات. ففي إحدى المرات، بعد العثور على امرأة مقتولة في المعركة، أدان النبي-صلى الله عليه وسلم-قتل النساء والأطفال.وفي رواية أخرى، أوضح النبي إدانته بالقول: "لم تكن تقاتل"، أي لا يجوز قتلها، وأمر كذلك أصحابه بعدم قتل العمال.إن رسالة عدم العدوان كانت قائمة على السيف النبوي كتذكير للجميع، "إن أشد الناس عتوا رجل ضرب غير ضاربه، ورجل قتل غير قاتله."-هناك عديد من الروايات والتقاليد مثل ما سبق تؤكد على حماية حياة المدنيين وغير المقاتلين.
وفي ضوء هذا المبدأ، يجب التشديد على قاعدة إضافية للاشتباك: تعدي الحدود حرام.
ففي ساحة المعركة، لا يجوز استهداف المسنين والضعفاء والنساء والأطفال والرهبان والعمال وغيرهم من المدنيين ما لم يقاتلوا بأنفسهم. وحتى ذلك الحين، لم يؤذن باستخدام القوة إلا بما يتناسب مع التهديد، لذلك يجب تفادي قتلهم على الإطلاق.
وهناك قاعدتان أخريان تحرمان استخدام القسوة ضد المقاتلين وتخريب الممتلكات: 1) يحظر التمثيل بالجثث والتعذيب. 2) لا يجوز قطع الشجر أو إتلاف الزرع والضرع أو تخريب المباني والمنشآت المدنية أو غير ذلك إلا في ظروف محدودة (سيتم تناولها لاحقًا).
وقد شُدد على المبادئ ذاتها في المادة 3 من إعلان القاهرة بشأن حقوق الإنسان، الذي أصدره واعتمده المؤتمر الإسلامي التاسع عشر لوزراء الخارجية في القاهرة عام 1990، والذي يستند إلى مبادئ الشريعة الإسلامية:
أ) في حالة استخدام القوة أو المنازعات المسلحة، لا يجوز قتل من لا مشاركة لهم في القتال كالشيخ والمرأة والطفل، وللجريح والمريض الحق في التداوي وللأسير الاطعام والمأوى والكسوة، ويحرم التمثيل بالقتلى، ويجب تبادل الأسري وتلاقي اجتماع الأسر التي فرقتها ظروف القتال.
ب) لا يجوز قطع الشجر أو إتلاف الزرع والضرع أو تخريب المباني والمنشآت المدنية للعدو بقصف أو نسف أو غير ذلك.
وهكذا فإن القرآن والسنة يقرّان حماية غير المقاتلين أثناء الحرب حماية كاملة. فلا يجوز بأي شكل من الأشكال استهداف المدنيين عمدًا. ويؤكد القرآن هذه القاعدة بالقول: "وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ". وبعبارة أخرى، يقتصر القتال على المقاتلين فحسب -ممن يشاركون في القتال، ويحرم قتل أي شخص إلى جانبهم لأن ذلك يمقته الله وفقًا للشريعة الإسلامية. ولا عجب من اتفاق هذه القواعد مع نظرية ولزر الحديثة.
كما أن القرآن الكريم صريح بشأن خطورة إزهاق حياة الأبرياء:
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}
اقرن القرآن الكريم هنا الحرمة بالأمر في وقت واحد. إذ يعلن أن إزهاق حياة إنسان بريء هو بمثابة قتل جماعي، لأن الموافقة على جريمة قتل واحدة هي موافقة أخلاقية على كل جريمة قتل. وفي الوقت نفسه، فإن الآية تجيز للدولة استعمال عقوبة الإعدام بأقصى الشروط (ولا تندرج هذه المسألة ضمن نطاق هذه المادة). ومع ذلك فإن جسامة قتل شخص واحد يجب أن يجعل المؤمن يقف على ذلك الأمر إذا كانت شرعيته محل نزاع، كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: "أعف الناس قتلة أهل الإيمان". كما أن القرآن الكريم يهدف إلى حماية حياة الجميع، بما في ذلك حياة غير المسلمين. فهو لم يقل: "إذا قتل أي شخص مسلمًا، فكأنه قتل الناس جميعا". بل إن الكلمة المستخدمة في اللغة العربية هي "النفس"، بغض النظر عن الإيمان أو العرق أو أي صفة أو هوية أخرى. إن قتل النفس قتل جماعي وجريمة ضد الإنسانية (بالمعنى الحرفي)؛ فهو محظور تمامًا بأقوى العبارات وأشدها صرامة.
ولكن القرآن الكريم يجيز قتل المقاتلين خلال الحرب. ووفقًا لنظرية الحرب العادلة، كما أوضحها ولزر، قد يُقتل مقاتلو العدو بشكل شرعي في أي وقت، حتى عندما يكونون غير مسلحين، طالما أنهم لم يُصابوا أو يُأسروا.-وهو يصف حالة ما مفادها تبرير قتل جنود العدو في أي وقت أثناء الحرب قانونيًا وأخلاقيًا، وأنه حتى عندما لا يشاركون بشكل مباشر في القتال في ذلك الوقت فلا يستعيد المقاتلون حقهم في الحياة.
وفي نفس السياق، يعتبر القرآن أيضًا قتل جنود العدو خلال الحرب مشروعًا، وهو سياق الآية {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ}. -وقد نزلت هذه الآية بعد توقيع صلح الحديبية عندما كان المسلمون مقبلون على الحج إلى مكة المكرمة. فلم يعرفون كيف يردون إذا ما قوبلوا بالعدوان. هل سُمح لهم بالقتال ضد من هاجموهم؟ أم هل سُمح لهم باستعادة الأراضي والممتلكات المأخوذة منهم بصورة غير مشروعة بالقوة؟
هذه الآية أجابت على تلك الأسئلة. أي أنه يجوز مهاجمة المقاتلين وقتلهم خلال الحرب وأيضًا استعادة الأراضي والممتلكات المأخوذة بغير حق باستخدام قوة نسبية. وسيكون الأمر مضللًا تمامًا بالإشارة إلى عبارة "وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم" دون الرجوع إلى الآيات التي قبلها وبعدها أو السياق التاريخي والقانوني. وفي كثير من الأحيان يذهب بعض غير المسلمين وحتى المسلمين إلى تأويل هذه الآية لتبرير خططهم الشخصية كما لو كان القرآن يحرض على العنف والقتل. ومع ذلك، هذه الآية واضحة جدًا عندما تُفسر في سياقها الصحيح. أنها تحدد الحدود الهامة في الحرب. كما إنها لا تجيز قتل النفس بطريقة عشوائية "حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم".
وتنتهي هذه الآية بقوله تعالى: {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}، مشيرة إلى أن المعتدين الذين هاجموا المسلمين كانوا في مكة المكرمة. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الآية لا تجيز قتل غير المسلمين لمجرد عدم اعتناقهم الإسلام، إذ أن الآية السابقة لم تسمح إلا بمهاجمة أولئك الذين هاجموا أولاً. لم يستهدف جيش النبي-صلى الله عليه وسلم-الرجال أو النساء أو الأطفال أو كبار السن وغيرهم من غير المقاتلين. فلقد تحررت مكة في نهاية الأمر من قمع قريش وظلمهم ولم تسقط قطرة دم واحدة، على الرغم من أن العديد من المعتدين الذين كانوا يضطهدون الإسلام لسنوات كانوا ضعفاء آنذاك. وقد عُفي عنهم جميعًا باستثناء عدد قليل من أسوأ مجرمي الحرب.
وتختتم الآية ذات الصلة بمؤهلات التخفيف التالية:
{فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ. الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}
وهناك صورة موجزة لنظرية الحرب العادلة تكون محط تركيز واهتمام. وتكرر الآية سبب القتال: وضع حد للعدوان والفتنة. إن "عبادة الله" تعني أن عدالة الله راسخة وأن الحقوق الطبيعية محمية للجميع. ولا تقتضي هذا العدالة اعتناق الناس الإسلام كلٍ على حدة، بل عليهم تطبيق العدالة الاجتماعية بما يتفق مع القيم الإسلامية والإنسانية.
علاوة على ذلك، إذا كف الأعداء عن القتال، مثل الاستسلام أو الدعوة لعقد معاهدة سلام، ينبغي قبول السلام دون قصاص (باستثناء المدانين بارتكاب جرائم حرب). وكما يقول القرآن في مواضع أخرى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}فحتى المقاتلين يجب منحهم اللجوء إذا طلبوا ذلك {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ}.
ويؤكد القرآن الكريم على إبرام السلام مع العدو، بغض النظر عن عقيدته أو عرقه أو صفته أو هويته. فالسلام هو الخيار الأفضل دومًا ما دام العدو يبتغيه ويتراجع عن عدواته. وفي هذه المرحلة لا يجوز العداء إلا ضد الذين يبغون العدوان أو المرتكبين لجرائم حرب. كما أنه إذا طلب أحد جنود العدو اللجوء، على المسلمين قبوله.
ومع ذلك، يمكننا التأكيد على قواعد الاشتباك التالية:
- لا تجوز الحرب إلا للقضاء على عدوان أو فتنة.
- يجب قبول عروض السلام بعد النصر.
- لا يجوز إيذاء جنود العدو المستسلمين.
والآن وبعد ترسيخ أساس الحرب العادلة، سننتقل لتناول تفاصيل هذا الأساس.
أسرى الحرب
كما ثبت آنفاً، يُمنح الأمان للأعداء الذين يستسلمون أو يكفون عن القتال. والقرآن الكريم ينص على أن التصدق على أسرى الحرب مكافئ للتصدق على الفقراء والمحتاجين، إذ يقول عن المؤمنين: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} .ووفقًا لتفسير الطبري، فإن "أسيراً" في هذه الآية تعني "الحربيّ من أهل دار الحرب يُؤخذ قهرا بالغلبة ... فأثنى الله على هؤلاء الأبرار بإطعام هؤلاء تقرّبا بذلك إلى الله وطلب رضاه، ورحمة منهم لهم".وبعبارة أخرى، فقد آثر المؤمنون الأوائل هؤلاء الأسرى على أنفسهم، وقدّموا لهم طعامهم وشرابهم مما يحبونه.
وضع وصف الإسلام حلًا مبتكرًا لمعضلة ما يجب القيام به مع أسرى الحرب. فقد واجهت هذه المعضلة الدول منذ فجر الزمن وما زالت تسبب مآزق أخلاقية في العالم الحديث، كما رأينا في السجون العسكرية في أبو غريب وخليج غوانتانامو. ويتناول لزر هذه المسألة قائلاً:
يبرم الجندي المستسلم اتفاق مع آسريه: بأنه سيوقف القتال إذا أعطوه ما تطلق عليه الكتب القانونية "الحق في المعاملة العادلة" ... إذ يكون لأسرى الحرب الحق في محاولة الهرب-ولا يجوز معاقبتهم على ذلك-ولكن إذا قتلوا حارسًا من أجل الفرار، فإن القتل ليس عملًاً من أعمال الحرب؛ بل يعتبر قتلًا في حد ذاته. ولأنهم التزموا بالكف عن القتال، فقد تخلوا عن حقهم في القتل، عند استسلامهم. في حين أن هذا يبدو مثاليًا، فإنه غامض ونادر تطبيقه عمليًا في عصرنا الحالي. ما الذي يضمن "الحق في المعاملة العادلة"؟ كم من الوقت يجب أن يسجن الأسير؟ كيف يمكنهم تحقيق حريتهم؟
على مر التاريخ كانت هناك بعض الخيارات المعتادة فيما يتعلق بمعاملة أسرى الحرب:
الإعدام
أمر سهل وبسيط، وربما أسرع وأسهل الحلول للآسرين. وبطبيعة الحال، هذا أمر مكروه أخلاقيًا إلا باعتباره عقاب قانوني على مجرمي الحرب حسني النية. فالإعدام بوجه عام يخالف المبادئ الإسلامية والحديثة على حد سواء.
السجن
هذا إجراء متوافق مع الإسلام ونظرية الحرب العادلة، بشرط عدم إساءة معاملة السجناء. ويعيب على هذا النظام إضراره بالأسرى والآسرين على السواء حتى عند تطبيقه بشكل مناسب. فبالنسبة للأسرى، يجبرهم السجن إلى أجل غير مسمى، حيث لا يمكنهم نفع أنفسهم ولا المجتمع. أما بالنسبة إلى الآسرين، يفرض هذا القانون مشقة على مجتمعهم بشكل مباشر، إذ يجب دفع تكاليف المأوى والغذاء والعلاج الطبي والحراسة من بين أمور أخرى. ومن الناحية اللوجستية، كان من المستحيل تنفيذ ذلك في أعقاب معركة ضخمة، دون توفير الموارد اللازمة لبناء نظم سجون جماعية مع مباني مناسبة ومجهزة للعاملين. وفي إطار الممارسة التاريخية، كان من النادر احتجاز السجناء في ظروف مثالية. فكثيرًا ما كانوا يتعرضون للمعاملة اللاإنسانية دون حد لذلك إلا الهروب أو الإعدام.
إطلاق سراح الأسرى
هذا أكثر الحلول سخاءً، لكنه غير عملي تمامًا، بل وقد يشكل خطرًا. فإذا كان أعدائك يعلمون أنك ستطلق سراحهم فقط عند القبض عليهم، فقد يخططون لإعادة شتات أمرهم والتجمع ويهاجموك مرة أخرى.
وبما أن أيًا من هذه الحلول لا يمكن أن يكون قابلاً للتطبيق من الناحية الأخلاقية أو العملية كقاعدة عامة، فقد اتخذ الإسلام ممارسة قائمة، وعدّلها، وحولها وأصلحها: إنها الرق، وهو يُفهم خطأً في بعض الأحيان بأنه مساوِ للعبودية. إنه يعني خضوع كل أسير لإمرة أسرة واحدة من المجتمع المسلم. وتكون تلك الأسرة مسؤولة عن تزويد العبد بمأوى ملائم وبنفس نوعية الأغذية والملابس التي يتقاسمها جميع أفراد الأسرة. ويقوم العبد بدوره بمساعدة الأسرة في الأعمال الروتينية اليومية. وتستمر هذه العلاقة إلى أن يُباع العبد أو يُحرر أو يشترى حريته. وبهذه الطريقة، استغل السجين وقته وأفاد نفسه والمجتمع دون إساءة معاملته أو يكون عبئًا على المجتمع. وبالإضافة إلى ذلك، فإن شرط السداد النقدي مقابل إطلاق سراحه يكون بمثابة رادعًا للأعداء.
ومن المؤكد أن النظام الإسلامي يطبق "الحق في المعاملة العادلة" في نظرية الحرب العادلة الحديثة. إذ يخضع السجين للحماية من الإيذاء ويُمنح نفس نوعية المعاملة ومستوى المعيشة التي تكون للأسرة التي يعيش معها. كما أن السجين يكون قادرًا على رد هذه المعاملة الجيدة من خلال عمله، حتى لا يضر المجتمع.
وبغية ضمان أهداف هذا النظام، أرسى النبي-صلى الله عليه وسلم-عدة قواعد بشأن الرق وفرض قيودًا عليه. فلم يكن بمقدور القائم بأعمال الرعاية تغيير اسم عبده، وبالتالي يضر بنسب أسرته. وكان من الضروري منح السند الفرصة للعمل من أجل شراء حريته الخاصة، كما يقول القرآن: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ}. وكان يجب معاملة العبد على قدم المساواة واحترام حقوقه الطبيعية، وعدم تحميله أكثر من طاقته في العمل. كان أبو ذر يرتدي نفس الملابس التي يرتديها عبده. وعندما سُئل عن سبب ذلك، قال: إن النبي-صلى الله عليه وسلم-عتب عليه سوء معاملة عبده، قائلا:
"إنهم إخوانكم حولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم".
إن جزاء تحرير العبد كبير عند الله، بل مطلوب للتكفير عن الذنوب. والقرآن الكريم يبّين طريق الخلاص بأنه "تحرير العبد". وقد حضّ النبي-صلى الله عليه وسلم-على تحرير الأسرى بشكل عام، كلما كان ذلك ممكنًا، قائلًا: "أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكّوا العاني". كما أرسى قاعدة تنص على أن مجرد صفع العبد أو الخادم بطريقة مهينة يستلزم تحريره، "من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه".
وكما يتضح من القيود المذكورة أعلاه، فإن نظام الرق في الإسلام يهدف إلى إدماج أسرى الحرب كأعضاء منتجين في المجتمع. وفي بعض الأحيان يعتنق العبد الإسلام عندما يتلقى معاملة آدمية. إن الحقيقة التي جاء بها الإسلام هي الحقيقة التي جذبت كثير من أعدائه السابقين، مثل: عمر بن الخطاب، وأبو سفيان، بل قبلوها عن طيب خاطر.
أثبت نظام الرق جدارته في العديد من المواقف والحالات، إذ حققت مجموعات كاملة من العبيد وأطفالهم مكانة اجتماعية مرموقة، بل أصبحوا حكامًا في العالم الإسلامي، مثل المماليك في الإمبراطورية العثمانية. ولكن هذا النظام للأسف وُصف بغير حق بأنه يعادل المعاملة التي كان يتلقاها العبيد الأمريكيون والأفارقة الأصليون على أيدي الأسياد الأوروبيين والأمريكيين. فلم يُمنح هؤلاء العبيد أي حقوق أو لم يُمنحوا إلا حقوقًا محدودة، فضلاً عن سوء معاملتهم وضربهم بلا رحمة، وقد يبلغ الأمر أحيانًا إلى القتل؛ بل إن التشابه بين "الرق" في الإسلام ونظام العبودية الأوروبي/الأمريكي يعزو إلى أولئك ممن سموه بذلك الاسم فحسب.فقد كان العبد في ظل الشريعة الإسلامية خاضعًا للسيطرة لأسباب مختلفة تمامًا، مثل أسرى الحرب، وليس بسبب عرقهم مثلًا. وقد كان السجناء في الإسلام يُعاملون معاملة أفضل بكثير وأتيحت لهم فرصة الحراك الاجتماعي المتطلّع. وكما ذكرنا آنفًا، حث الإسلام على إطلاق سراح العبد بل أمر بتيسيره.
قد يكون النظام الإسلامي بديلًا عادلًا وبارًا لدى معاملة السجناء في العصر الحديث. ويمكن القول بأن المعيار الغربي في كيفية معاملة أسرى الحرب-كما هو الحال في خليج غوانتانامو وغيره من "المواقع السوداء"-لا يرتقي إلى مبادئ الشريعة الإسلامية من حيث المعاملة الإنسانية.
مبدأ "التأثير المزدوج"
قد يصل الأمر أحيانًا في الحروب إلى اتخاذ إجراءات عسكرية من شأنها إزهاق أرواح المدنيين وتخريب الممتلكات. هل يمكن اعتبار هذه الإجراءات عادلة؟
يأخذ مبدأ "التأثير المزدوج" بعين الاعتبار أن أي عمل عسكري قد يكون له أثران، أحدهما أثر إيجابي والآخر أثر سلبي، مع استهداف الأثر الإيجابي بالطبع. ويمكن تبرير أي تأثير سلبي على أنه أقل الشرّين. ويؤكد مايكل ولزر أن هذا المبدأ هو الأساس لقبول درجة معقولة من الأضرار الجانبية:
"يجوز القيام بعمل يُحتمل أن يكون له عواقب شريرة (مثل قتل غير المقاتلين) بشرط توافر الشروط الأربعة التالية: 1) أن يكون العمل جيداً في حد ذاته أو على الأقل غير مبالِ، وهذا يعني أنه لأغراضنا هو عمل شرعي من أعمال الحرب. 2) أن يكون التأثير المباشر المقبول أخلاقيًا-كتدمير الإمدادات العسكرية أو قتل جنود العدو. 3) أن يكون قصد الفاعل خيرًا، أي أنه يهدف فقط إلى التأثير المقبول؛ فالأثر الشرير ليس أحد نهاياته، وليس أحد الوسائل نحو أهدافه. 4) أن يكون الأثر الجيد خيرًا بما فيه الكفاية للتعويض عن أثر الشر؛ أي يجب أن يكون هناك ما يُبرره بموجب قاعدة سيدجويك التناسبية.وبعبارة أخرى، يرى ولزر أنه من قبيل العدل والقبول القيام بأعمال عسكرية قد تكون لها عواقب ضارة غير مقصودة، مثل وفاة المدنيين، طالما أن الفعل الأساسي مشروع، أن تكون النتيجة الإيجابية (صد التهديد) هي الدافع الأساسي. ويجب ألا تكون العاقبة السيئة غرض العمل أو هدفه، والأهم من ذلك أنه يجب أن تفوق العواقب الشريرة النتائج الإيجابية بما فيه الكفاية.
هذا الفهم يتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية التي تسمح بإزالة ضرر أشد بضرر أقل، في محاولة لحساب الفائدة والضرر من العمل بقدر الإمكان. وكقاعدة عامة، كان من الواضح أن النبي-صلى الله عليه وسلم-يحظر تمامًا الاستهداف المتعمد للمدنيين وقتلهم في جميع الأحوال، ولا سيما النساء والأطفال. ومع ذلك، ونظرًا للمبدأ المقبول عمومًا في إطار الضرورة العسكرية واختيار أقل الضررين، وفق ما يقع في نطاق الأربعة شروط مزدوجة التأثير، أجاز النبي-صلى الله عليه وسلم-اتخاذ العمل العسكري إذا لم يؤدِ إلى إلحاق الضرر بالمدنيين، إلا إذا كانت هذه الإجراءات ضرورية ولا مفر منها.
وظلت الحالة مفادها لا يمكن استهداف المدنيين عن عمد، ولكن الأعمال العسكرية المشروعة المتوقع منها التأدية إلى أضرار جانبية لا يجوز حظرها بالكلية. وبالطبع ذلك لا يبرر الهجمات المباشرة ضد المدنيين أو أي عمل من المرجح تسببه في ضرر غير متناسب. وقد عبر الإمام مسلم عن هذا الفهم في فصل له بعنوان "جواز قتل النساء والأطفال في الغارات الليلية إذا لم يكن متعمدًا". وهو في ذلك يستشهد بحادث قام فيه النبي-صلى الله عليه وسلم-بغارة ليلية ضد العدو، وقد عُثر بعد ذلك على بعض النساء والأطفال المقتولين بطريق الخطأ. وقد سُئل النبي-صلى الله عليه وسلم-عنهم وقال: "أنهم منهم". واعتبر أنه خطأ العدو من حيث وضع المدنيين على مقربة من هدف عسكري مشروع.
وقد أرسى هذا الحادث مبدأ الضرورة العسكرية في الإسلام، وهو ما تقيده ظروف التأثير المزدوج. على الرغم من أن قتل غير المقاتلين هو أمر مكروه لأقصى درجة، إلا أنه قد يكون حتمي في بعض الأحيان عند اتخاذ إجراءات عسكرية للرد على العدو. وإذا كان حظر قتل المدنيين مطلقاً في كل ظرف من الظروف، حتى وإن كان لا حتمي وغير مقصود، فإن ذلك سيتيح للعدو استخدام الدروع البشرية لدعم هجموه. وهذا عيب لا يقبله أي قائد عسكري عاقل. ولمزيد من الوضوح، فلا يجوز أن تمتد هذه الرخصة إلى درجة استهداف المدنيين مباشرة أو التسبب في التخريب. ولا يسمح الإسلام أو نظرية الحرب العادلة التلاعب بمفهوم "الخير الأكبر" من أجل تحقيق نتائج شريرة.
وبموجب مبدأ الضرورة العسكرية والتأثير المضاعف، يحظر الإسلام بوجه عام تخريب حقول العدو ومزارعه ومنشآته كما ورد في قول أبي بكر المذكور آنفاً. بيد أن هذه القاعدة أيضاً تخضع لمبدأ التأثير المزدوج. وقد أجاز القرآن حرق أشجار العدو إذا لزم الأمر، ولكن في الوقت نفسه لم يلزم أو يوصي بهذه الخطط العسكرية {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}.هذه الآية نزلت عن قبيلة يهودية ما في المدينة المنورة، بنو النضير، فقد خانت المسلمين وانتهكت ميثاق المدينة المنورة بدعم جهود حرب قريش. لم يكن الهجوم عليهم لمجرد أنهم يهود. فأثناء الهجوم، اقترح حرق أشجار النخيل التي توفر حماية وموارد لبني النضير، وذلك لمواصلة القتال. وقد اختلف المسلمون حول ما إذا كان ينبغي القيام بهذا الفعل، ولكن الآية أيدت الهجوم على أشجار النخيل. وهو عمل محظور عادة، ولكنه في هذه الحالة أصبح مشروعًا للضرورة.
وفي أعقاب هذه الآية، يقول العالم المسلم "ابن همام": إن مهاجمة زروع العدو ومنشآته أمر مشروع خلال الحرب "إلا إذا كان لا يمكن التغلب على العدو أو هزيمته دون اللجوء إلى التدابير المذكورة أعلاه". ونقول مجددًا إن الإجراء المحظور لا يُصّرح به عادة إلا إذا كان رخصة لضرورة عسكرية. إن الرخصة ليس أمرًا جيدًا في حد ذاته، بل لا تجوز إلا عندما يكون البديل الوحيد أسوأ.
إن التوسع غير المشروع لهذه الرخص، إلى حد التسبب عمدًا في الموت غير المبرر والدمار الغاشم، هو جوهر الإرهاب الذي نوجه إليه انتباهنا إليه الآن.
الإرهاب
عُرف الإرهاب بأنه "الاستخدام غير المشروع للعنف والترهيب، ولا سيما ضد المدنيين، بغرض تحقيق أهداف سياسية". إن أي شكل من أشكال الإرهاب أو أي انتهاك لمبادئ عدم العدوان يُعد جريمة حرب غير مشروعة تمامًا في إطار كل من الشريعة الإسلامية ونظرية الحرب العادلة الحديثة، وذلك لجميع الأسباب التي حددناها حتى هذه النقطة.
ومع الأسف يُفسر القرآن الكريم في بعض الأحيان بطريقة تحث على الإرهاب، مثل الآية الكريمة: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}. ويتضح من السياق أن الغرض من ذلك ليس تخويف المجتمعات بأكملها أو تخويف الناس نحو تحقيق هدف سياسي يخدم مصالحهم الذاتية، بل هو ردع للتهديدات المحتملة. إن "الخوف" أو "الرهبة" لا ينشأن عن هجوم فعلي، لا سيما الهجوم على المدنيين أو ممتلكاتهم. فالغرض هو الردع، وليس الإرهاب. كما أنه في أعقاب هذه الآية يأتي أمر مباشر بقبول السلام، كما ذكرنا سابقًا، وهو ما يجعلنا نعلم أن الردع يجوز فقط على المعتدين.
إن الردع عمل شرعي آخر في نظرية الحرب العادلة. ووفقًا للعلماء السياسيين فرانك زاغار ود. مارك كيلجور، فإن الردع الناجح الرامي لتجنب الحرب لا يستلزم القدرة فحسب بل المصداقية أيضًا ضمن "قاعدة المعاملة بالمثل". وعندما تكون لدى الدولة القدرة والمصداقية على القيام بتهديد أو الرد على هجوم، فإن احتمال اندلاع الحرب يكون أقل احتمالاً. فالدولة التي تهاجم دولة أخرى يجب أن تتوقع هجومًا مضادًا. خلال الحرب الباردة، كان مبدأ التخريب المتبادل المضمون أو "توازن القوى" متأصلاً في عملية الردع المتبادل، وقد منع الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة من التسبب في محرقة نووية عالمية. وبغية الحفاظ على السلام، فإن القرآن الكريم يدعو إلى بناء الاستعدادات العسكرية كرادع ضد التهديدات المحتملة. فهذا هو السياق الذي يُستخدم فيه مصطلح "الإرهاب" في القرآن الكريم، على الرغم من أن هذا المصطلح يمكن ترجمته بطريقة مختلفة لتفادي هذا المعنى الضمني غير المناسب. فالقرآن الكريم لا يبرر بأي شكل من الأشكال قتل المدنيين الأبرياء عمدًا أو يبرر استخدام "الإرهاب" كما هو مفهوم اليوم. وحتى برنارد لويس، وهو عالم معروف بانتقاده الشديد للمسلمين، يعترف صراحةً بأنه "ليس في النصوص الإسلامية الأساسية ما يفرض الإرهاب والقتل".
كما أظهرت الدراسة الأكاديمية المعنية بالإرهاب، فإن العلاقة المزعومة بين الإسلام والإرهاب علاقة زائفة على أحسن الفروض وخطرة في أسوأها. فقد قام العالم السياسي روبرت بيب بتحليل الهجمات الإرهابية الانتحارية التي ارتكبها المتطرفون المسلمون (أو بوصف أكثر دقة "الفاسقون") وخلص إلى أن الإسلام ذاته ليس هو الدافع:
تشير البيانات إلى أن هناك صلة محدودة بين الإرهاب الانتحاري والأصولية الإسلامية، أو أي من أديان العالم ... بل إن جميع الهجمات الإرهابية الانتحارية تقريبًا تشترك في هدف علماني واستراتيجي محدد: ألا وهو إرغام الديمقراطيات الحديثة على سحب قواتها العسكرية من الأراضي التي يعتبرها الإرهابيون وطنهم. وقلما يكون الدين هو السبب الجذري لذلك، على الرغم من أنه في الغالب يستخدم كأداة من قِبل المنظمات الإرهابية في تجنيد الأفراد وفي جهود أخرى لخدمة الهدف الاستراتيجي الأوسع نطاقًا.
كما حذر بيب من مخاطر السياسات التي تجعل الإسلام هو السبب الجذري للإرهاب "... إن الصلة المفترضة بين الإرهاب الانتحاري والأصولية الإسلامية مضللة وقد تكون محفزًا للسياسات المحلية والأجنبية لتدفع الموقف الأمريكي إلى التدهور وإلحاق الأذى بالعديد من المسلمين بلا داع". فالمسلمون وغير المسلمين يتعرضون للأذى بسبب الخطاب السياسي الخاطئ الذي يلقي باللوم على الإسلام، على الإرهاب فحسب.
يقول جوزيف شوارتز، وهو عالم سياسي آخر: إنه حتى الهجمات المروعة التي وقعت في 11 سبتمبر لم تكن لها علاقة بالدين الإسلامي بل إن علاقتها تمت بالكلية بمقاومة السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط (التي يُعبر عنها باستخدام وسائل غير مشروعة):
ولكن هذه الحركات ليست مجرد خلق لعقول منحرفة غير عقلانية. فكثيرًا ما تنشأ الحروب الإرهابية نتيجة لممارسة ظلم سياسي واضح للغاية. إن التعامل مع تنظيم القاعدة على أنه حفنة من القتلة هو بمثابة تجاهل للمنطق العقلاني الكامن وراء هجومه على مركز التجارة العالمي، وهو ذاته المنطق الذي استندت إليه الولايات المتحدة من خلال مهاجمة أفغانستان بعد ذلك.
قد ينتج الإرهاب عن العديد من الأنظمة السياسية الظالمة الحقيقية: مثل دعم الولايات المتحدة لاحتلال إسرائيل الجائر لفلسطين، والغزو الأمريكي للعراق وتخريبها، والعقوبات التي سبقت حرب العراق التي أسفرت عن مقتل ما يصل إلى نصف مليون شخص، والدعم الأمريكي المستمر للحكومات القمعية، وما إلى ذلك. في حين أن أيا من هذه الأفعال الجائرة لا يبرر الإرهاب بأي شكل من الأشكال، فإنها مع ذلك توفر المناخ الملائم الذي من شأنه زيادة الهجمات على الولايات المتحدة وحلفائها. إن مجرد إخبار هؤلاء الإرهابيين بأن الإسلام يدين أساليبهم هو حل غير كافِ، لأن الإسلام ليس دافعهم، على الرغم مما تردده الوسائل الإعلامية اليوم. وفي الوقت الذي يستطيع فيه العلماء المسلمون مواصلة توضيح وجهة نظر الإسلام بشأن الإرهاب، فهناك حاجة ملحة إلى تطبيق نهج ثلاثي الأبعاد لدى التصدي للإرهاب:
1) بذل جهود متواصلة للدعوة إلى إصلاحات السياسات الإنسانية في العالم الإسلامي؛ 2) تحدي السياسات والإجراءات الأمريكية الفاشلة وغير العادلة التي تخلق مناخًا خصبًا لتجنيد الإرهابيين؛ 3) إلى جانب استمرار حملة نزع الشرعية عن المؤسسات الإجرامية المنحرفة التي تجند الضعفاء للانخراط في أعمال عنف عشوائية من أجل النهوض بهذه المؤسسات باسم الأسباب المتنوعة التي ينتهزونها.
الـخـلاصـة
إن نصوص القرآن والسنة تنص على عدم جواز شن الحرب إلا إذا كان غرضه رد فعل على عدوان أو فتنة وذلك لمنع شر أشد جسامة. فالإسلام يتمسك بمبدأ عدم العدوان، الذي ينص على عدم جواز إيذاء أي إنسان أو حيوان ما لم يكن الضرر حتميًا لتحقيق قدر أكبر من المنفعة أو الحيلولة دون وقوع ضرر أشد وطأة. وعلى هذا الأساس، فإن القرآن الكريم يجيز التدخل العسكري لمساعدة المضطهدين، واتخاذ تدابير استباقية وقائية إذا لزم الأمر. كما أن الإسلام يحظر بشدة القتل العمد للمدنيين أو غير المقاتلين أو حتى استهدافهم أو تدمير ممتلكاتهم، ما لم يكن هناك تخطيط عسكري دقيق بأن التعرض للأضرار الجانبية عاقبة مقبولة أخلاقيًا. ويجب معاملة أسرى الحرب معاملة إنسانية، بل وإدماجهم في المجتمع الأوسع نطاقًا، وإتاحة سبل واقعية لتأمين حرياتهم بتكليفهم بأعمال آدمية معقولة. إن ردع العدو مؤيد باعتباره وسيلة لحفظ السلام، من خلال بث قدرة صادقة للرد على العداء غير المُستفز. أما الإرهاب، على النقيض من ذلك، ليس إلا وسيلة مكروهة مدانة تمثل انتهاكًا للتعاليم الإسلامية الأساسية ونظرية الحرب العادلة الحديثة.
[1] سنن بن ماجة. (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1975) 2: 784 # 2340.
[2]جلال الدين السيوطي. الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية. (بيروت: دار الكتب العلمية، 1990) 1: 7-8.
[3]علي حيدر. درر الحكام شرح مجلة الأحكام. (بيروت: دار الجيل، 1991) 1:40.
[4]سورة البقرة، 2:217، محمد عبد الحليم سعيد، القرآن الكريم: ترجمة إنجليزية مع نص عربي موازٍ. (أوكسفورد: مطبعة جامعة أكسفورد، 2010)، 35.
[5] الذهبي. سير أعلام النبلاء ". (القاهرة: دار الحديث، 2006) 14:85.
[6] سورة البقرة، 2:190، محمد عبد الحليم سعيد، القرآن الكريم، 30.
[7] البيضاوي. أنوار التنزيل و أسرار التأويل. (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1998) 1:270.
[8] ابن تيمية. كتاب النبوات. (الرياض: أضواء الصفا، 2000) 1: 570.
[9] ابن تيمية. مجموع الفتاوى. (المدينة المنورة: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1995) 28: 354.
[10] سورة البقرة، 2:190، محمد عبد الحليم سعيد، القرآن الكريم، 30.
[11]محمد شفيع عثماني ومحمد تقي عثماني. معارف القرآن. (كراتشي: مكتبة دار العلوم، 1996) 1: 482.
[12]مايكل ولزر. الحروب العادلة والحروب الظالمة: جدل أخلاقي عبر التاريخ: (نيويورك: بازيك بوكس، 2006) 38.
[13] شفيع وعثماني، معارف القرآن الكريم، 1: 483.
[14]مالك بن أنس وأبو مصعب الزهري. موطأ الإمام مالك. (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1993) 1: 357 # 918.
[15] البخاري. صحيح البخاري. (بيروت: دار طوق النجاة، 2002)، 4:61، رقم 3014.
[16] أبو داوود. سنن أبي داود. لبنان: المكتبة الأثرية، 1980) 3:53 # 2669.
[17] البيهقي. السنن الكبرى. (بيروت: دار الكتب العلمية، 2003) 8:49 # 15896.
[18] إعلان القاهرة بشأن حقوق الإنسان في الإسلام، "مكتبة حقوق الإنسان في جامعة منيسوتا": hrlibrary.umn.edu/instree/cairodeclaration.html
[19] سورة المائدة، 32:5، عبد الحليم، القرآن الكريم، 114.
[20] أحمد بن حنبل. مسند الإمام أحمد بن حنبل. (بيروت: مؤسسة الرسالة، 2001) 6: 274 # 3728.
[21] مايكل ولزر، الحروب العادلة والحروب الظالمة: 138، 142.
[22] سورة البقرة، 2:190، محمد عبد الحليم سعيد، القرآن الكريم، 30.
[23] طارق رمضان. على خطى النبي صلى الله عليه وسلم: دروس من حياة محمد. (أوكسفورد: مطبعة جامعة أكسفورد، 2010)، 178.
[24] سورة البقرة، 2:190، محمد عبد الحليم سعيد، القرآن الكريم، 30.
[25] سورة الأنفال، 61:8، عبد الحليم، القرآن الكريم، 185.
[26] سورة التوبة، 6:9، عبد الحليم، القرآن الكريم، 188.
[27] سورة الإنسان، 8:76، عبد الحليم، القرآن الكريم، 580.
[28] الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن. (بيروت: مؤسسة الرسالة، 2000) 24: 97.
[29] مايكل ولزر، الحروب العادلة والحروب الظالمة، 46.
[30] سورة النور، 33:24، عبد الحليم، القرآن الكريم، 355
[31] البخاري، صحيح البخاري، 1:15، # 30
[32] سورة البلد، 90:13، عبد الحليم، القرآن الكريم، 595
[33] البخاري، صحيح البخاري، 7:67 5373.
[34] مسلم. صحيح مسلم. ([بيروت]: دار إحياء الكتب العربية، 1955)، 3:1278 #1657.
[36] مايكل ولزر، الحروب العادلة والحروب الظالمة، 153.
[37] مسلم، صحيح مسلم، 3: 1364 # 1745.
[38] سورة الحشر، 5:59، عبد الحليم، القرآن الكريم، 547
[39] شفيع وعثماني، معارف القرآن الكريم، 8: 339.
[40] قاموس أوكسفورد الإنكليزية عبر الانترنت؛ en.oxforddictionaries.com/definition/terrorism.
[41] سورة الأنفال، 60:8، عبد الحليم، القرآن الكريم، 185.
[42] سي. فرانك زاجار، دي. إم. كيلغور. الردع الكامل. (كامبريدج، المملكة المتحدة: مطبعة جامعة كامبريدج، 2000)، 296.
[43] يرنارد لويس. أزمة الإسلام: الحرب المقدسة والإرهاب الآثم. (نيويورك: المكتبة الحديثة، 2003) 39.
[44] روبرت بيب. التشوق للفوز: المنطق الاستراتيجي للإرهاب الانتحاري. (نيويورك: راندوم هاوس تريد بابيرباكس، 2006) 4.
[45] المرجع نفسه. 3.
[46] م. جوزيف شوارتز. "الفهم الخاطئ للإرهاب الإسلامي:" الحرب ضد الإرهاب "ونظرية الحرب العادلة. ما وراء الفلسفة. 35.3 (2004): 273-302، 284.